ضابط بحرية روسي يضع ورودا على ضريح أحد ضحايا الغواصة الروسية
ضابط بحرية روسي يضع ورودا على ضريح أحد ضحايا الغواصة الروسية

د. عماد بوظو/

كان يوم الثلاثاء الثاني من شهر يوليو الحالي مليئا بالإثارة في وسائل التواصل الاجتماعي نتيجة موجة من الإشاعات بدأت بعد إلغاء نائب الرئيس الأميركي مايك بنس رحلة مقررة مسبقا، برّرته الناطقة باسمه أليسا فرح "إن بعض التطورات تطلبت من نائب الرئيس البقاء في واشنطن".

وفي نفس الوقت أعلن المتحدث باسم الكرملين ديميتري بيسكوف أن الرئيس بوتين ألغى مشاركته في منتدى الأنهار الروسية واستدعى وزير دفاعه لاجتماع طارئ، ترافق ذلك مع إلغاء عدة نشاطات أخرى في ما أسماه الإعلام "ثلاثاء الاستدعاءات الطارئة".

فيما بعد أعلنت وزارة الدفاع الروسية أن هناك حريقا قد وقع في غواصة نووية روسية مما أدى إلى مقتل أربعة عشر بحارا، وصرّح بوتين بأن غواصة عسكرية سرّية تعمل بالطاقة النووية تعرضت لحريق.

ثم ذكرت وسائل إعلام روسية أنها غواصة مهام خاصة حديثة بدأ استخدامها عام 2003 تعرف باسم إي ـ إس ـ 12 "لوشاريك" ومصممة للنزول لعمق 6 كيلومترات تحت سطح الماء، ويتم حملها أو تعليقها على سفينة أو غواصة أكبر منها خاصة سفينة التجسس الروسية "يانتار" التي نزلت إلى لخدمة عام 2015. 

تكاد روسيا تحتكر حوادث الغواصات النووية في القرن الحالي

​​تستوعب الغواصة 25 بحارا وتحتوي على سبع حجرات كروية الشكل مصممة لكي تتحمل الضغط، ومن مهماتها ملاحقة شبكة المصفوفات الصوتية ومتابعة كابلات الاتصالات الدولية في قاع المحيط للتنصت عليها، ولذلك فقد فرضت الولايات المتحدة عام 2018 عقوبات على الشركة الروسية التي توفر معدات الغوص تحت الماء لحساب جهاز الأمن الفيدرالي الروسي.

في اليوم التالي أعلن الناطق باسم الرئاسة الروسية: "لا يمكن تناول معلومات هذه الحادثة علنا لأنها سرية للغاية". وفي نفس اليوم نشرت وزارة الدفاع الروسية أسماء البحارة القتلى فكانت المفاجأة الأخرى هي أنهم جميعا من كبار الضباط، ونصفهم من ضباط الصف الأول في البحرية الروسية، ويحمل اثنان منهم وسام بطل روسيا الاتحادية، مما أثار التساؤل حول مبرر إرسال هذه النخبة من الضباط معا في مهمة خطرة؟ ثم كيف يموت هذا العدد من كبار الضباط دون فقدان أي ضابط متوسط أو صف ضابط أو جندي؟ وهل هناك احتمال بأن هؤلاء الضباط القتلى هم مجرد قمة جبل الجليد؟

فمع انعدام الشفافية يصبح كل ما قالته المصادر الروسية موضع شك؛ من مكان الحادثة إلى تاريخ وقوعها والعدد الحقيقي لضحاياها، وفيما إذا كانت الغواصة متصلة أثناء "الحادث" بالغواصة أو السفينة الحاملة لها مما يفسّر هذا العدد الكبير من كبار الضباط القتلى؟ ولا يوجد ما يمنع الخيال من أن يذهب بعيدا إلى درجة التساؤل هل من الممكن أن تكون الحادثة محاولة هروب فاشلة، أو أن يكون لها علاقة ما مع التحضيرات لعيد البحرية الروسي الذي يصادف في نهاية شهر يوليو والذي يقام فيه احتفال كبير يحضره بوتين.

تكاد روسيا تحتكر حوادث الغواصات النووية في القرن الحالي، ففي عام 2008 تعرضت غواصة نووية روسية لحادث في المحيط الهادي أدى إلى مقتل 20 بحارا وإصابة 21 آخرين نتيجة خلل في جهاز إطفاء الحريق أثناء اختبار روتيني. وقبلها في عام 2003 غرقت غواصة نووية أخرى من طراز "كيه 159" أدت لمقتل 9 بحارة، ولكن الكارثة الكبرى للبحرية الروسية كانت في 12 أغسطس 2000 عندما غرقت الغواصة "كورسك" وهي واحدة من أحدث الغواصات التي تم إضافتها للبحرية الروسية عام 1995 والمصممة لمهاجمة حاملات الطائرات، نتيجة انفجار أحد طوربيداتها خلال إحدى المناورات، والتي أدت لمقتل 118 بحارا، وقد أثارت هذه الحادثة استياءا شعبيا كبيرا لأن الغواصة غرقت على عمق 108 أمتار فقط، ولم تتمكن المعدات الروسية من إنقاذ بحارتها.

تبين لاحقا أن البحرية الروسية غير مستعدة لمثل هذه الحوادث ولا تمتلك الأدوات اللازمة لعملية الإنقاذ بما فيها سترات الغوص. كذلك لأن القيادة الروسية رفضت عروض المساعدة التي قدمتها الدول الغربية، رغم سماع أصوات طرق البحارة الأحياء على جدران الغواصة طلبا للنجدة. وعندما قبل بوتين المساعدة بعد اتصال مع الرئيس الأميركي حينها، بيل كلينتون، بعد عدة أيام كان الأوان قد فات. 

اتضح العجز الروسي عندما تمكّن الغواصون النرويجيون من الوصول إلى موقع الغواصة الغارقة خلال ساعات، وقد عثر على ورقة في جيب البحار كولسنيكوف كتب عليها: "الساعة الواحدة والربع.. الطاقم الخاص بالقطاعات 6 و7 و8 انتقل جميعه إلى القطاع تسعة، عددنا هنا 23 شخصا، لم نتمكن من استخدام مخرج الطوارئ".

كما كان من أسباب غضب أهالي البحارة أن بوتين لم يقطع إجازته في البحر الأسود بسبب الحادث، وقال في تبرير ذلك إنه "رغب في التوجه إلى مكان الحادث حال سماعه النبأ لكنه امتنع عن ذلك حتى لا يؤثر وجوده في أداء فريق الإنقاذ" واعتبر أن تصرفه كان صائبا. ولتوجيه غضب الأهالي باتجاه آخر، حاول الإعلام الروسي الإيحاء بوجود دور لطرف خارجي في الحادثة، كما تم دفع تعويضات لذوي الضحايا تعادل رواتب البحارة لأكثر من عشر سنوات لإرضائهم وشراء سكوتهم.

من الأمثلة الأخرى على الوضع البائس لسلاح البحرية الروسي، حاملة الطائرات الوحيدة التي تملكها روسيا "الأميرال كوزنتسوف"، والتي تبين أنها لا تستطيع الإبحار بنفسها فقد قطرتها سفينة إلى سوريا عام 2016 بينما كان الدخان الأسود يتصاعد من محركاتها، إلى أن تم إيقافها عن العمل للصيانة التي من المفترض أن تنتهي عام 2021. وبرر أندريه فرولوف رئيس تحرير مجلة "تصدير الأسلحة" الأمر بقوله: "يمكننا أن نضحك من السفينة "كوزنتسوف" أو من الرصيف العائم الذي غرق نهاية عام 2018، ولكن إذا نظرنا إلى الحال التي كان عليها الأسطول عام 1997 يمكننا القول إن الوضع الحالي هو أفضل الممكن".

تبين لاحقا أن البحرية الروسية غير مستعدة لمثل هذه الحوادث ولا تمتلك الأدوات اللازمة لعملية الإنقاذ بما فيها سترات الغوص

​​كما تم الإعلان في عام 2011 عن برنامج لعشر سنوات لتحديث سلاح البحرية، لكن الخبير إيغور ديلانوي المختص بهذه المواضيع قال إنه "لم يتم إنجاز أي سفينة في موعدها المحدد"، وتعود أسباب ذلك إلى نقص التمويل والتأخر في تسليم المستحقات، وشبهات الفساد التي ترافق كل مراحل الإنتاج والتصنيع.

وكان من المفترض وضع ثماني فرقاطات طراز "غورشكوف" في الخدمة تدريجيا حتى العام 2018، ولكن كل ما تم إنتاجه كان فرقاطة واحدة فقط، لأن أوكرانيا التي كانت تزود السفن الروسية الحديثة بتوربينات الغاز، توقفت عن ذلك بعد انقطاع علاقتها مع روسيا، نتيجة احتلال روسيا لأراض أوكرانية.

كل ذلك يكشف عن الأوضاع الحقيقية للقوات البحرية الروسية، وإذا أضيف إليها عجز الأسلحة الروسية عن التصدي للغارات الإسرائيلية على المواقع الإيرانية في سوريا، وفشل الهجوم على إدلب لأنه تم بدون اتفاق مسبق مع تركيا، يصبح من الطبيعي التشكيك باستعراضات الشاشات الكبيرة التي يقدمها بوتين في الاحتفالات الوطنية، والتي يعرض فيها صور كومبيوتر لأسلحة خارقة لا يمكن التصدي لها، لأنها تبدو أقرب إلى البروباغندا التي تزداد الحاجة إليها بعد كل انتكاسة تصاب بها الأسلحة الروسية، ولذلك من المتوقع أن يتضمن عيد البحرية الروسية بعد بضعة أيام على عرضا استثنائيا عن الإنجازات الجبارة للبحرية الروسية!

اقرأ للكاتب أيضا: "إحالة الأوراق إلى المفتي".. عبارة من عصور مظلمة

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.