في زمن الاستبداد القومي، ومن بعده الديني، لم يكن متاحا أمام المجتمع العراقي الذي يمثل الإسلام، بشقيه الشيعي والسني، 94 في المئة من سكانه، معرفة الآخر المختلف دينيا وعرقيا. لم تسمح أجهزة الرقابة الأمنية في زمن البعث إلا لعدد قليل من الباحثين والأكاديميين في التعاطي مع هذه القضايا، ولكن في مجال محدود التداول بهدف حماية ما كان يعرف في تلك المرحلة بهوية الدولة (الأمة) في تطبيق لمقولة ديكتاتور العراق السابق صدام حسين بأن "العراقي يولد بعثيا".
تعاملت الأجهزة الرقابية مع فكرة التنوع من منطلق أمني بوصفه خطرا يستغله الخارج من أجل تفتيت الوحدة الوطنية، ويستخدمه الداخل ـ أي المعارضة ـ في إضعاف التماسك العقائدي للمجتمع.
ونتيجة لحالة القلق الدائم من هذه القضايا، لجأت أجهزة الدولة إلى إصدار دراسات أكاديمية تتبنى مقاربتها الأمنية للتعددية العراقية. فقد صدر عام 1982 عدة كتب كان من أبرزها كتاب "الأقليات الدينية والقومية وتأثيرها في الواقع السياسي والاجتماعي في محافظة نينوى" الذي صدر عن مركز التطوير الأمني وكتاب "الشخصية الأزيدية" وكتاب "الشخصية الكردية" اللذان صدرا عن دائرة الاستخبارات العسكرية في رئاسة الجمهورية. وفي نهاية ثمانينيات القرن الماضي تمت ترجمة الموسوعة اليهودية، ولكن بإشراف مباشر من مدير الأمن العام حينها فاضل البراك؟
وقد اعتبرت هذه الكتب والدراسات التي رأت النور بعد الموافقة الأمنية سطحية وضعيفة في الناحية البحثية بسبب اعتمادها على روايات ضعيفة ومصادر مشكوك بعلميتها، ولم يكن الهدف منها إلا تشويه الآخر المختلف واستخدامها في تبرير معاقبته معنويا وجسديا وصولا إلى عملية الأنفال.
وفي زمن الاستبداد الديني ما بعد 2003 وانتقال السلطة إلى يد الجماعات الكبرى (الشيعة، السنة والأكراد) استبعد الآخر المتنوع مرة أخرى، وتم استغلاله في الصراعات الدموية على السلطة والنفوذ ما أدى إلى أكبر هجرة للأقليات في تاريخ العراق، حيث تحولت مناطقهم الجغرافية إلى خطوط تماس واقتتال.
أدت تداعيات هذا الاقتتال إلى انفجار واحدة من أخطر الأزمات الأمنية والديمغرافية في تاريخ العراق الحديث في شهر يونيو 2014 عندما احتل تنظيم "داعش" الإرهابي مدينة الموصل عاصمة محافظة نينوى وأقضيتها (تل عفر وسنجار) وسيطر على كامل سهلها ونفذ عملية إبادة جماعية وتهجير بحق سكانها، ما أدى إلى اقتلاع التركمان والأيزيديين والشبك والمسيحيين من مناطقهم التاريخية.
حتى الآن، لم تنجح الحكومة العراقية الحالية في استثمار ما أنجزته حكومة رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي الذي حقق النصر العسكري على الإرهاب، وأسس لإمكانية مصالحة اجتماعية ووطنية كبرى بين جميع مكونات الشعب العراقي برعاية الدولة ومؤسساتها الرسمية، بالشراكة مع الهيئات الدينية الرسمية ومؤسسات المجتمع المدني، بعدما دفع العراق ثمنا غاليا وعاليا بالأرواح إضافة إلى دمار كامل في المدن والنواحي التي احتلها داعش.
ولكن في الوقت الذي تنشغل به أحزاب السلطة في تقاسم المغانم وترتيب الصفقات ما بين أعداء الأمس ـ حلفاء اليوم، أثبت المجتمع العراقي، الذي عانى الأمرين في زمن البعث وفي زمن الإسلام السياسي، أنه قادر على صناعة غير الممكن وإحياء ورشة إعادة بناء المجتمع وإشراك الآخر بمعزل عن حجمه ومعتقده في النسيج العام الوطني بهدف الحفاظ على إرثه التاريخي، وهو ما تميزت به بلاد ما بين النهرين.
ففي لحظة وصفها بطريرك بابل والكلدان الكاردينال ساكو بلحظة أمل وعبور، أطلق في بغداد "معهد دراسات التنوع" بالشراكة ما بين الهيئات الرسمية الدينية ومؤسسات المجتمع المدني بحضور الكاردينال ساكو والزعيم الروحي لطائفة الصابئة المندائيين في العراق والعالم الشيخ ستار الحلو، والمفكر والمؤرخ الأيزيدي السفير خليل الجندي، إضافة إلى مؤسسات المجتمع المدني في مقدمتها مؤسسات مسارات التي احتضنت الإعلان عن المعهد ورعته بالشراكة مع كلية العلوم الإسلامية في جامعة بغداد وكرسي اليونسكو لحوار الأديان في جامعة الكوفة، إضافة إلى أكاديمية البلاغي لحوار الأديان في النجف الأشرف، والمجمع الفقهي لعلماء العراق وتجمع علماء الاعتداء في العراق وأيضا أكاديمية هاني فحص للحوار وكلية العلوم السياسية في الجامعة المستنصرية.
وقد اعتبر الكاردينال ساكو "أن المعهد يمثل علامة أمل لمواجهة الطائفية من خلال هذا العمل المشترك بين مؤسسات تمثل أديانا مختلفة وشخصيات أكاديمية من مختلف الخلفيات الإثنية والخبرات، والأهم أن مناهج تدريس الأديان المندائي والأيزيدي والمسيحي قد تم كتابته من قبل أتباع الأديان أنفسهم، وسيتم تدريسه على يدهم.
في حين أشار الشيخ ستار جبار حلو رئيس الطائفة المندائية في العراق والعالم إلى "عمل المعهد الرائد في مجاله على مواجهة الغموض والجهل ببعض المعتقدات الدينية ومنها الديانة المندائية بسبب ما يرد في المناهج الدراسية الرسمية من مغالطات وما يشاع من أفكار خاطئة تؤدي للتعصب الديني أو التمييز ضد المندائيين وبقية المكونات الدينية من مسيحيين وأيزيديين".
أما الباحث والخبير في الشؤون الأيزيدية خليل جندي فقد قال "إنها المرة الأولى في تاريخنا التي يتم فيها تدريس مادة الديانة الأيزيدية للآخرين، وعلى وجه التحديد لرجال الدين المسلمين، حسب منهج أعددته عبر عمل استغرق ثلاثة عقود، ومن شأن ذلك أن يحرر العقول من الجهل كما تحررت الأرض من داعش".
بعد خمس سنوات من عمل تطوعي دائب، تم إطلاق المعهد في الثاني من يوليو ليتحول إلى فرصة تاريخية وخطوة طال انتظارها لسنوات لتغيير التوازن لصالح نشر المعرفة والتنوير بالتنوع الديني ومعرفة الآخر. فهل الآخر المتنوع في عراق مثقل بالهموم لم يزل ممكنا؟
اقرأ للكاتب أيضا: موسكو طهران بين متلازمتين
ـــــــــــــــــــــ الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).