الرئيس اللبناني الراحل فؤاد شهاب مستقبلا الملك المغربي الراحل محمد الخامس عام 1960
الرئيس اللبناني الراحل فؤاد شهاب مستقبلا الملك المغربي الراحل محمد الخامس عام 1960

منى فياض/

يكثر التحسر هذه الأيام على جمهورية فؤاد شهاب، التي أورثتنا المؤسسات التي عشنا على فضلاتها إلى أن قضت عليها أوهام الهيمنة والقوة: قوة لبنان وجمهوريته، قوة الرؤساء، قوة أمراء الطوائف والقبضايات وهيمنة جنود الأولياء من الفقهاء المشكوك في صلاحهم.

لكن الغرابة تكمن في أن البعض، وحتى الآن، يجيبك مستنكرا: "كيف يمكن التحسر على حقبة فؤاد شهاب؟ وزمن الشعبة الثانية؟ الله لا يقدر يرجعوا!".

غريب هذا الحقد الذي لا ينضب، متعاميا عن المستنقع الآسن من العنف والعفن والنفايات الذي يغمرنا، فيقفز عنها نصف قرن ليدين ممارسات المكتب الثاني!

لم تعرف الطبقة السياسية في تاريخها رجلا كفؤاد شهاب

​​هذا الحقد الذي لاحق شهاب وضباطه الذين اعتمد عليهم في حياته، جعله يصرح: "لو كنت أعرف أن الضباط سيلاحقون على نحو كهذا من التشفي والانتقام، ويساء إليهم ويحاكمون على ما لم يرتكبونه، لما كنت ترددت في العودة إلى الرئاسة"، كما أتى في كتاب "جمهورية فؤاد شهاب" لنقولا ناصيف. أسفه وندمه جعله يتساءل عن جدوى حصر تفكيره في مصلحة بلده بعيدا عن مصلحته الشخصية: "أدرك الآن متأخرا أن معظم الحاكمين لا يقومون إلا بلعب أدوار في ملهاة كبيرة تجعلهم يبدون وطنيين كبارا". تحول البلد الآن بأكمله إلى مسرح لملهاة سوداوية كبرى.

ينطبق على غالبية اللبنانيين الآن ما تنبأ به أحد الضابط الفرنسيين، كما نقل فؤاد شهاب، ما سمعه في فترة نضال الحكومة اللبنانية للاستقلال، عن امتعاض ضابط فرنسي كبير من ابتهاج الجنود اللبنانيين بقرب حصولهم على استقلالهم الوطني، فعلق: "أنتم الآن مسرورون بما يحصل وبتحقيقكم، ربما، استقلال بلدكم. لكنكم ستندمون كثيرا فيما بعد، عندما يترك الجيش الفرنسي لبنان".

كمثل نبوءة، لا تنطبق علينا فقط؛ فكم مرة قرأنا هذا التعليق أو سمعناه من أصدقاء ومعارف يتحسرون على أيام الانتداب؟ في بعض البلدان العربية نسمع أيضا تحسراتهم على الحكام الذين أطاحت بهم الانقلابات التي سميت ثورات. ألا يتحسر المصريون على أيام الملك فاروق عبر استعادته على شكل مسلسلات تسترجع حنينا موجعا! والليبيون على السنوسي؟ والسودانيون يريدون العودة إلى ما قبل الثلاثين سنة الأخيرة!

في المقدمة التي كتبها فؤاد بطرس، لكتاب "جمهورية فؤاد شهاب" لنقولا ناصيف، ينقل حديثا جرى بينه وبين فؤاد شهاب في إحدى لقاءاتهما حول التطورات والتوقعات عندما سأله: "هل تعرف سابقة كان على سياسي لبناني أن يختار بين مصلحته الخاصة ومصلحة البلد فآثر مصلحة البلد على مصلحته الخاصة؟ يكتب بطرس: ترددت قليلا وأجبته بأني لا أذكر سابقة من هذا القبيل. فصمت وهز رأسه. وحيال دقة الظروف والتوقعات السوداء نصحني عندما ودعني بأن "أحمل السلم بالطول لا بالعرض". قاصدا الحياة وإشكالاتها.

لم تعرف الطبقة السياسية في تاريخها رجلا كفؤاد شهاب تميزت شخصيته الإنسانية والسياسية بالنبل واحتقار الإغراءات من أي نوع كانت وبالترفع عن المصلحة الخاصة. حريصا على مساءلة النفس باستمرار ومحاسبتها دون مراعاة.

وتبين سيرته أنه لم يطمح لأن يتولى دور زعيم لبنان بل سعى إلى أن يوطد مركزه ودوره كرئيس على رأس دولة بالمعنى الصحيح. وبحسب تجربته ومعرفته بالوضع اللبناني ورؤيويته لمهامه كرئيس للجمهورية، قال في منتهى الوضوح: "لبنان لم يتمكن بعد من أن يشكل دولة بالمعنى الصحيح، كما أنه لا يشكل أمة بمعنى الوطن". لذا أخذ على عاتقه وضع برنامج مفصل على أمل أن يصبح لبنان دولة بالمعنى الصحيح للتوصل إلى بناء أمة.

لكن الأحداث جعلته يصاب باليأس والإحباط في آخر أيامه، ونتبين هذا مما قاله لضباطه قبيل وفاته في 19 مارس 1973: "إذا لم يتوصل المسؤولون إلى إيجاد حل، فما يتراءى لعيني هو توقع حمام دم بين اللبنانيين. هذه المرة لن يكون ثمة لا غالب ولا مغلوب، بل مغلوبان كبيران هما السيادة والاستقلال".

المؤسسات التي تركها كانت بداية لتأسيس دولة المواطنة والرفاه والمساواة

​​وها قد غلبنا على أمرنا وفقدناهما معا، وصح ما قاله خطاب ذكرى الاستقلال 21 نوفمبر 1960: "الاستقلال الحق لا يؤخذ ولا يعطى. إن الاستقلال يبنى". الطبقة السياسية الحاكمة مارست الهدم بكل قواها، بل سلمت لبنان للإحتلال الايراني "الناعم" وبالوكالة.

كان يعلم أن "المشكلة الأساسية في لبنان، اليوم وغدا، اجتماعية. ويجب إرساء توازن اجتماعي في لبنان لا وجود له. كان هذا هدفي عندما استلمت الحكم. أي حدث يبلور عدم الرضى من شأنه التسبب بانفجارات أخرى. إذا، وحده، إرساء العدالة الاجتماعية يؤمن للبنان توازنا حقيقيا".

المؤسسات التي تركها كانت بداية لتأسيس دولة المواطنة والرفاه والمساواة، قدر الإمكان، إذ لا وجود لمساواة مطلقة في أي مكان على الكرة الأرضية. ولكن العمل على هدم ما بناه بدأ مباشرة بعد رفضه التجديد. ومن هذا المنطلق يلام "الحلف الثلاثي" الطائفي و"المارونية السياسية" التقليدية على تفريطها بلبنان وتوازنه من أجل مصالحها الضيقة ورفضها إرساء عدالة كانت تطالب بها الشرائح الطائفية الأخرى ـ إلى جانب مسؤولية القوى الأخرى. فكانت الحرب الأهلية والخراب العميم الحالي؛ بذريعة وهم استعادة النظام الرئاسي الذي كان عليه لبنان ما قبل الحرب الأهلية!

سأله موريس دوفرجيه لماذا لم يرد البقاء في الحكم كي يفرض الإصلاحات التي كان يراها ضرورية، فأجابه فورا وبلا دوران:" لأنني لم أشأ التصرف كديكتاتور كما كان ينبغي فعله حينذاك".

بالطبع لم يعرف لبنان سوى قلة قليلة من رجال الدولة الذين لم يكن هدفهم مراكمة الثروات فقط ولو عبر الاستتباع لقوى خارجية. فؤاد شهاب لم يترك سوى منزلا عاديا بناه على قطعة أرض أورثه إياها خاله وديع حبيش في جونية حيث توفيت زوجته التي عجزت عن تدفئته.

أين نجد أمثال رجل، حتى بعد محاولة الانقلاب التي نفذها الحزب القومي الاجتماعي بمؤازرة ضباط من الجيش ضد عهده عام 1961، ظلّ يصرّ على نزهاته بلا مواكبة! فكانت سيارات مرافقيه تتبع سيارته، وفي داخلها عناصر من الشعبة الثانية في ثياب مدنية لحمايته، من دون أن يكتم أحيانا تذمره منهم. فيما بعضهم يسير مئات الجنود لحمايته كما يلزمهم ربع ساعة لمرور سيارات مواكبهم!

لم يعرف لبنان سوى قلة قليلة من رجال الدولة الذين لم يكن هدفهم مراكمة الثروات

​​تفادى شهاب الاستفادة من المخصصات المرصودة للقائد في موازنة وزارة الدفاع الوطني التي يجيز له القانون التصرف بها، دونما إخضاعها لمراقبة وزارة المال! فيما الهدر والسرقات تظهره الموازنة حاليا علنا ومع سبق الإصرار.

هل سنجد ذات يوم رئيسا يجعله إيمانه يشبه الدستور بالإنجيل، مفسرا العلاقة بين الإنجيل والدستور، بأنه يرسي أيضا، الحياة المشتركة للمواطنين من خلال مؤسسة عادلة ومنصفة هي الدولة، فهدفهما خدمة الإنسان.

يدعونا ذلك إلى الدعاء: اللهم أنعم علينا بفؤاد شهاب آخر، يمكنه لجم طبقتنا السياسية الفلتانة. ويعيد لنا لبنان كما رغبه مؤسسوه الأوائل: تعددي وديمقراطي متخلصا من أمراضه الطائفية.

أم أن الوضع ميؤوس على ما قاله السفير الفرنسي دوكان: إن "لبنان بلد غير صالح للإصلاح؟".

اقرأ للكاتبة أيضا: "فتنة باسيل وبيضة القبان"

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.