صحفيون مصريون يعتصمون رفضا لاعتقال زملاء لهم في العام 2016
صحفيون مصريون يعتصمون رفضا لاعتقال زملاء لهم في العام 2016

مالك العثامنة/

من زاوية رؤيتي الشخصية، فإن أي حكم منصته دينية هو حكم متطرف عصبوي إقصائي يعتمد منهجية استبداد النخبة الدينية التي تتغطى بالمقدس، والمقدس يمكن تفصيله على قياس النخبة نفسها في أي وقت.

لهذا فإن نظام الحكم في إيران ليس أكثر من نظام استبدادي ضحيته الأولى الإنسان الإيراني نفسه، بمن فيهم أولئك الذين يهتفون بشدة لحكم الملالي ويتشددون لعمامة الفقيه أكثر من تشددهم للقمة عيشهم، هؤلاء ضحايا العتمة، العتمة التي تجلبها لهم نخب الفقهاء والشيوخ والتي تحجب النور عن عيون الناس.

ليس عندي مشكلة مع الإنسان الإيراني، ولا الثقافة الإيرانية، بل أني أكن لتلك الثقافة ـ المدفونة تحت ركام عمائم العتمة ـ الكثير من الاحترام والتقدير.

الخاسر الوحيد هو المتلقي نفسه لتستمر مسيرة تزييف الوعي على الدوام

​​لكن خصومتنا لتلك الأنظمة الدينية المستبدة، وحتى الأنظمة المستبدة أيا كانت منطلقاتها يجب ألا تكون خصومة بحد ذاتها منطلقة من منصة التشدد والتطرف والمبالغة حد تزوير الوعي.

تلك الخصومة "المزيفة للوعي" تتجلى بوضوح في كثير من الإعلام العربي بمختلف وسائطه، ليصبح هذا الإعلام تابعا لأجندات سياسية تستخدم التمويل بكل أشكاله للسيطرة على دفق المعلومات الصادر عن وسائل الإعلام.

ما يحدث في الإعلام العربي بخصوص "إيران" تحديدا، من أكثر المضحكات المبكيات، فقد دأبت وسائل الإعلام على أن "تتمذهب" في عدائها لإيران فتخندقت في معسكر معاوية بعد أن استحضرته من قبره، فصار المتلقي العربي "غير الشيعي" والمسيس بسهولة من خلال ثغرة العقيدة في وجدانه ووعيه المسلوب، يرى في إيران كلها، بناسها وتفاصيلها أعداء وجوديين له؛ وفي المقابل، كان الإعلام المضاد المسيطر عليه من طهران، "متمذهبا" حد استحضار كل كربلائياته وبكائياته، فدخلنا من جديد في معركة صفين نسخة القرن الواحد والعشرين.

♦♦♦

السؤال المطروح على طاولة الإعلام العربي، هو ماذا يعرف المتلقي العربي عن إيران وثقافتها وناسها وحضارتها وتاريخها وأدبها؟ هل قدم الإعلام العربي "عموما" وجبة إعلامية دسمة تجيب عن كل ما يجهله العربي وهو بطبيعته عدو ما يجهل!

ما حجم الحرية التي يملكها من يمتهن الإعلام (لا فئة المتاجرين به)، لتقديم الحقائق بحيادية بعيدا عن الأجندات المتشنجة والمحتقنة بروح داحس والغبراء؟

هنالك في الإعلام العربي وفي كلا خندقيه، لغة تخوين واضحة الملامح

​​طبعا، الإعلام العربي ذو الأجندات المحضرة مسبقا والممولة جيدا لن يهاجم فكرة الاستبداد في الدولة الإيرانية، ولن يعزلها عن باقي معطيات الشأن الإيراني، فهو إن فعل ذلك فإنه بطريقة ما يقوم بتعرية استبداده أيضا، ويفتح الباب مواربا لتساؤلات عن دول الاستبداد جميعها، وهو المحظور دخوله على مكونات وعي المتلقي العربي.

في المقابل، ماذا يقدم الإعلام التابع لملالي طهران وتمويلهم غير لغة خشبية مضللة تسعى بكل جهدها أيضا لإلغاء الإنسانية من خلال استدرار عواطف شعبوية وباستخدام لغة عبثية لا معنى لها لكنها على عبثيتها قادرة على دفع كل الأدرينالين في عروق المتلقي، مثل مقاومة وكفاح مسلح ونضال قومي ومن البحر إلى النهر.. وكلها تعابير ومفردات لا تسمن ولا تغني إلا نفس تلك الأنظمة المستبدة.

♦♦♦

هنالك في الإعلام العربي وفي كلي خندقيه، لغة تخوين واضحة الملامح، فإن لم تكن في الحرب ضد إيران، فأنت بمنطق خشبي عجيب خائن لعروبتك ودينك، وإن كنت ضد إيران فأنت بمنطق خشبي مقابل وعجيب أيضا انبطاحي وخائن لقوميتك وقضيتك!

هذا يضع الإعلام في ساحة المعركة بل في منتصفها بالضبط، والخاسر الوحيد هو المتلقي نفسه لتستمر مسيرة تزييف الوعي على الدوام.

طبعا لكيلا نكون سوداويين تماما فإننا نتلمس أحيانا إضاءات إعلامية عربية تقاوم من أجل مهنيتها، وتكافح لتظل على موضوعيتها، وتناضل لتبقى على حافة البقاء والوعي في زمن دفق معلوماتي مجنون بلا قيود ولا كوابح ولا مسؤولية، تجاهد لتستمر بين دولارات الكاز والغاز.

اقرأ للكاتب أيضا: مشاتل التطرف

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.