احتلت أخبار الهتاف لصدام حسين جزء واسعا من أخبار الرأي العام العراقي طوال الأسبوع الماضي. إذ تداول الناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي أكثر من احتجاج عام، وفي مختلف مناطق العراق، كان المتظاهرون فيها يشيدون ويمجدون صدام حسين وزمانه.
ففي تظاهرة في العاصمة بغداد، انتشر فيديو لباعة من منطقة الدويلعي، ذات الأغلبية الشيعية، وهم يهتفون "بالروح بالدم نفديك يا صدام"، بعدما قامت السلطات المحلية بإزالة بعض المحلات التجارية العشوائية من تلك المنطقة. بعد ذلك الحدث بيوم واحد، انتشر فيديو لمتظاهرين ليليين من منطقة الجزائر في مدينة البصرة وهم يُرددون نفس الشعار. في نفس ذلك اليوم، كانت سيدة من تظاهرة دعت إليها القوى العربية في مدينة كركوك، تنديدا بسعي القوى الكُردية لانتخاب محافظ جديد للمحافظة، كانت تهتف تمجيدا للبعث وصدام حسين، قائلة: "أحنا البعث، أحنا صداميين والله، العراق ما ننطيه (نعطيه)".
تعبّر تلك الأحداث عن جزء غير يسير من الرأي العام العراقي، يملك شكلا من الحنين لزمن صدام حسين. لكن ذلك الحنين لا ينبع من مصدر وديناميكية وحيدة. ولحُسن الحظ، فإن المناسبات الثلاث التي جرت طوال الأسبوع الماضي، على تنوعها، كشفت أهم ثلاث ديناميكيات داخلية دافعة لذلك الحنين لصدام حسين وزمنه.
♦♦♦
متظاهرو البصرة، سكان أغنى مدن العراق بثرواتها النفطية، وأهم مدنها بالموقع الاستراتيجي، والذين يعاودون التظاهر شهرا بعد آخر، اعتراضا على رداءة الخدمات العامة والأحوال الاقتصادية شبه المنهارة ودور الدولة وآلية عملها في حياتهم اليومية، إنما يكشفون حنينا إلى دولة صدام حسين المركزية، التي كانت الإرادة السياسية شديدة الحزم مع الإدارة البيروقراطية والاقتصادية في مختلف مدن ومناطق العراق.
تمجيد متظاهري البصرة لنموذج صدام حسين، هو بمعنى ما تعبير عن قرف القواعد الاجتماعية العراقية الأوسع من أفعال منظومة الحكم الراهنة. فهذه المنظومة، وإن كانت تستند إلى شرعية ديمقراطية صناديق الانتخاب، فإنها تفتقد لأي التزام تجاه القيم والمعايير الأساسية للحياة الديمقراطية، مثل فصل السلطات وحرية الوصول للمعلومات وقداسة الحقوق المدينة، الفردية والجمعية منها على حد سواء، من إيلاء سلطة الإعلام الحر هيبة معقولة، إلى تمجيد استقلال القضاء. لعدم فعلها كل ذلك، فإن هذه السلطة تُغرق حياة مواطنيها ببحر من المُنغصات اليومية التي تتراكم وتتراكب لتؤسس لهيمنة نخب السيطرة السياسية الدينية على حيوات المواطنين، الاقتصادية والبيروقراطية والرمزية والروحية.
لأجل ذلك التفصيل بالضبط، فإن هذه السلطة سترتكب سلوكا شبيها بمنطق النظام السوري، فيما لو رأت في هتاف مواطنيها لصدام حسين خللا ما في أروحهم وانتماءهم وهويتهم الوطنية، لا رفضا جذريا لما ترتكبه هذه السلطة من حماقات واعية بحق مواطنيها، الذين لن يكتفوا بالرضا عن عملية ديمقراطية شكلية، لن تغير شيئا من أحوالهم العامة، طالما لم تكن ممزوجة ومبنية على احترام سلطة الحكم للقيم العامة للديمقراطية، قبل إجراءاتها الانتخابية.
♦♦♦
متظاهرو بغداد، كشفوا وجها طالما بقي مستترا بين الطبقات الميسورة وأنظمة الحكم الشمولية في منطقتنا، هذا الوجه الذي كان قائما على غض نظر متبادل بين الطرفين. يُغمض الميسرون عبره النظر ويرضون باستلاء النظام الشمولي على الدولة، مؤسساتها ومواثيقها وقوتها وفضاءها العام، كابحا أية إمكانية لبروز كتلة سياسية أو مدنية معارضة له. مقابل ذلك، فإن النظام الشمولي يسمح لهؤلاء بالسيطرة مفتوحة على المجتمع، يملكون فيه مواقع وآليات متمايزة، عن السواد الأعظم من المجتمع، وعلى حسابه.
كان "سادة العشوائيات" في المدن المتضخمة في ظلال هذه الأنظمة، هم التعبير الأكثر وضوحا عن تلك العلاقة المركبة الحديثة بين الطرفين. فبالضبط كما كان مخاتير القرى المهيمنين على عموم الفلاحين حلفاء الهيمنة الإقطاعية في زمن حكم الملكية العراقية، عبر عملية غض نظر شبيهة بهذه، فإن سادة العشوائيات كانوا حلفاء وتبعة مؤسسات وأجهزة حكم الأنظمة الشمولية، ويملكون حنينا جما لأزمنتها ومنطقها، وأولا لمواقعهم المُتمايزة في ظلالها، التي كانت تيسر لهم سلطة غير قليلة على الفضاء والخير العام.
أصحاب المحال التجارية التي بُنيت في أملاك البلديات، أماكن الحدائق والمركز الصحية، التجار الفاسدون الذين يتحسسون من ضغوط الأنظمة والشروط العامة للقانون العام، الموظفون الفاسدون وقبضايات الأحياء المتنمرون البسطاء، ومن مثل نماذجهم الكثيرون، يفتقدون الزمن الصدامي، حليفهم التقليدي وشريكهم الخالد. يعتبرون أن الدولة التي يسود فيها قانون عام حيادي تجاه الصراعات الأهلية، إنما هي مسٌ بمكانتهم وسلطتهم.
يفتح هنا أيضا قوس كبير آخر عن دور الدولة العراقية الحديثة ومسؤوليتها عن عدم توفير ما هو بديل وأكثر أمانا لهذه القوى المجتمعية الحيوية، وشديدة القابلية لتحطيم السلام الاجتماعي في سبيل موقعها في المتن العام.
♦♦♦
أخيرا، فإن متظاهرة كركوك، والتي ربما تمثل رأيا عاما في جماعتها الأهلية العراقية، ترفع الستار عن ميول استحواذية وسلطوية لجماعة ما، ترى في نفسها مركزية وسيادية وذات سطوة على باقي الجماعات الأهلية العراقية.
فالمتظاهرة العراقية كانت في تظاهرة رافضة لأن يكون محافظ كركوك من أبناء القومية الكردية، تلك القومية التي كانت هامشية الموقع والدور والسلطة في الزمن الصدامي، بالرغم من غالبيتها الديموغرافية، وتسعى المتظاهرة وتأمل بأن تبقى تلك القومية في ذلك الموقع. حيث كان الزمن الصدامي قد فعل كل شيء لتكون المدينة تابعة وخاضعة للجماعة الأهلية التي تنحدر منها المتظاهرة، بالرغم من أقليتها العددية، وهي تملك حنينا عميقا لاستعادة ذلك.
هل من اسم لهذا الشيء سوى سطوة الروح الاستحواذية، التي زرعها البعث الصدامي عميقا في ذوات العرب السنة العراقيين، الذين توهموا طويلا بأنهم ذوو العراق وأصحابه الوحيدون، ملاكه بمعنى أدق. وإلا لم أردفت المتظاهرة هتافها التمجيدي للزمن الصدامي بأخرى تقول: "لا العراق ما ننطيه (نعطيه)"! صيغة الملكية والأبوية واضحة في شحنات مثل هذا الخطاب. فالعراق المُرتجى في ذاكرة المتظاهرة، هو العراق الذي تسيطر فيه جماعتها الأهلية على باقي الجماعات، عراق البعث العربي عظما، والإسلامي السني لحما ودما.
هتاف العراقيين لصدام حسين ليس مزيجا تعبيريا لكل مآسي الأحوال العراقية، القرف من الحاكمين الجدد، واستعادة لرغبة مكبوتة بالعودة لنمط العلاقات التحالفية بين السلطة وأقوياء الحياة العامة، لكنه أولا تعبير تراجيدي عن اليُتم العمومي الذي يعيش هذا الشعب، والذي كان صدام نفسه من أهم آبائه المؤسسيين. فالعراقيون لو أرادوا أن يقولوا أي شيء، فإنهم يقولون "صدام حسين"، حتى لو أرادوا قول شيء ضد صدام حسين نفسه.
اقرأ للكاتب أيضا: بلاد شاسعة دُمرت.. كان اسمها قُرى الأكراد
ـــــــــــــــــــــ الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).