كويتيات يعتصمون اعتراضا على منع بعض الكتب من دخول البلاد
كويتيون يعتصمون اعتراضا على منع بعض الكتب من دخول البلاد

د. ابتهال الخطيب/

ورد قبل فترة خبر حكم محكمة استئناف أميركية بمنع الرئيس الأميركي دونالد ترامب من عمل حظر، أو بلوك، لأي من متابعيه عبر حاسبه على موقع تويتر باعتباره قد أرتكب مخالفة للمادة الأولى من الدستور الأميركي الخاصة بحرية الصحافة والتعبير حيث قالت المحكمة إن "المادة الأولى لا تسمح لمسؤول عام والذي له حساب في وسائل التواصل الاجتماعي مُستخدَما بمسالك مختلفة من أجل أغراض رسمية أن يعزل أشخاص من حوار إنترنتي مفتوح وذلك بسبب أنهم أعلنوا عن آراء يختلف معها هذا المسؤول".

لفتني هذا الحكم بقوة، فعلى كثرة انتقاداتنا للسياسة الأميركية الخارجية، ومؤخرا الداخلية كذلك، إلا أن مواقف الدفاع عن حرية الرأي هذه، والتي للتشريع الأميركي منذ ستينيات القرن الماضي تاريخ مشرف فيها، تثير كل الإعجاب. 

مثال على ذلك هو القانون الذي أقره الكونغرس الأميركي في 1965 والمسمى The National Foundation on the Arts and Humanities Act والذي يقول "إنه من الضروري والمناسب للحكومة الفيدرالية أن تساعد على خلق وتثبيت ليس فقط مناخا مشجعا لحرية التفكير والخيال والبحث، ولكن كذلك الظروف المادية التي تيسر إطلاق هذه الموهبة الإبداعية". 

كل نقد ينظر له في دول تأليه القيادات على أنه خيانة

​​الآن، وبغض النظر عما وراء الحكم الأخير حول حق الرئيس الأميركي في الحظر الإلكتروني من صراع ومعان وقوى، الحكم في حد ذاته درس مهم، رسالة قانونية وأخلاقية وحقوقية طازجة في جو أميركي تلوث مؤخرا بسموم تكميم الأفواه وتهديد الحريات.

حين مقارنة حقوق وحدود الرئيس الأميركي بحقوق وحدود مسؤولينا، تبدو الفجوة واسعة بمسافة ملايين السنوات الضوئية. دوما ما تدور عندنا في الشرق الأوسط، وخصوصاً في الكويت على اعتبارها الدولة الأكثر انفتاحا وحرية، زوابع نقاشية حول مدى "أخلاقية" نقد المسؤول السياسي، فالنظرة العشائرية القبلية ما زالت مسيطرة بمرضية، والمسؤول (الذكر طبعا) ينظر له على أنه أب، ومخالفته ليست فقط إشكالية سياسية ولكنها في الواقع سقطة أخلاقية تعرض الفاعل لسلطة القانون ولسلاطة الألسنة وللنبذ العام بالتهم الجاهزة المعلبة للخيانة ونشر الغسيل والتعاون الخارجي مع الأعداء. 

كل نقد ينظر له في دول تأليه القيادات على أنه خيانة؛ كل مساءلة زندقة، وكفر بالآلهة التي صنعناها بأنفسنا من تمر وعجين كما كانت آلهة أهل قريش تصنع قبل الإسلام حسب السردية العربية الإسلامية المشكوك فيها. إذا انتقدت مسؤولا أنت تنتقد أباك، وإذا ساءلت أنت تسائل الرمز المقدس، وإذا ثرت، أنت خرجت عن الأعراف وحطمت الهرم الاجتماعي الذي يذلك ويربطك والذي مع ذلك أنت مطالب باحترامه وتقديسه.

كل ذلك نعرفه، نفقه عمقه في عالمنا العربي؛ إلا أن المثير هو أنه حتى الصوت القادم من داخل "البيت" مكروه من العامة، ولربما كراهية أكبر من الصوت القادم من خارجه. فإذا ما أطلق مسؤول صافرة فساد، لا ينظر له على أنه كشف الداخل الخرب، بل ينظر له على أنه "ناشر للغسيل" ومخالف "للسيستم" غير المكتوب والمتفق بقدسية عليه. ويصبح "مطلق الصافرة" ليس فقط مزدر للمسؤول "الأب" الأعلى منه، ولكنه يصبح كذلك خائنا، مخالفا للقواعد الذكورية المتفق عليها من إبقاء غطاء الوعاء محكم الغلق على كل ما يجري ويدور، وهي قواعد يتفق عليها الذكور ليس فقط في حياتهم الاجتماعية بتسترهم على "زلات" بعضهم البعض ولكن كذلك في حياتهم السياسية بتعاهدهم الضمني على السكوت التام عن الداخل الخرب. أن تكون أحد أفراد الشعب فتتكلم، نقول "عيل وغلط" ولكن أن تكون أحد المسؤولين فتتكلم، ماذا نقول؟ كيف نبرر كلامك؟ طبعا لن تكون إصلاحيا في مجتمعنا، ستكون خائنا مدسوسا مخربا، وفي أفضل الأحوال خرفا معتوها.

بكل تأكيد هناك بروتوكول للحديث عن الحكومة حين تكون جزء منها، وهناك أعراف ودبلوماسيات لا بد من أخذها بعين الاعتبار، إلا أن ارتفاع نسب الفساد يفترض أنه يذيب بحرارته وبحمضيته كثير من الأعراف والدبلوماسيات، لتنطلق الصافرة داخليا حفاظا على أساسيات الكيان وسلامته الداخلية. هذا المنطق ليس موجودا عندنا، ليس من عاداتنا وتقاليدنا، فالداخل مظلم لا تراه عين شمس، والخارج كذبة مقدسة يجب على الجميع تكرارها بإيمان وإذعان. 

أن تطالب الشعب المقهور أن يتكلم ويعترض وينقد، فتلك دعوة مخطورة سياسيا، مرفوضة اجتماعيا

​​أتذكر في إحدى السنوات حضوري لمؤتمر تكلم فيه رؤساء وزراء ومسؤولين أوروبيين عدة ناقدين لسياسات بلدهم الخارجية والداخلية، مبينين خططا إصلاحية يعتزمون الالتزام بها، إلا المسؤول العربي، الذي حين جاء دوره، صور بلده جنة، وقوانينها يوتوبية، وأهلها شبه معصومين. قاومت نوبة الضحك التي انتابتني وأنا أستمع للكلمات وأشاهد وجوه الأوروبيين الصارمة الخالية من التعابير، ترى بم يفكرون؟

أعرف أن النداء بعيد، أن تطالب الشعب المقهور أن يتكلم ويعترض وينقد، فتلك دعوة مخطورة سياسيا، مرفوضة اجتماعيا، لكن أن تطالب المسؤولين المنعمين أن يطلقوا أي صافرة، فذاك عصي على التخيل، وفي الحالات القليلة التي تحققت فيها هذه المعجزة، كان رد الفعل عنيف، ليس تجاه المشكلة التي يذكرها المسؤول، وليس تجاه واقعية الشكوى وخطورة المفسدة، ولكن تجاه "بجاحة" هذا المتحدث وإخلاله بميثاق شرف السكوت، هذا السكوت المطبوع على أرواحنا وعقولنا وحيواتنا، حتى بات من يخل به خائنا للميثاق الرجولي، عاقا "بأبيه"، معتوها بين عاقلين. أسلم أن نبقى كلنا "عاقلين" عن أن يتكلم "معتوه" ويكشف المستور، ولا يبقى منا سالم، لا عاقل ولا معتوه.

اقرأ للكاتبة أيضا: كبرت كثيرا

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.