د. نجاة السعيد/
إن وصول دونالد ترامب للرئاسة شكل صدمة لدى كثير من الساسة سواء على الصعيد الداخلي الأميركي ـ خاصة بين الليبراليين ـ وعلى الصعيد الخارجي. فقد ذكر هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي الأسبق، أنه يعتقد "أن ترامب قد يكون أحد تلك الشخصيات في التاريخ التي تظهر من وقت لآخر لوضع علامة نهاية حقبة وإجبارها على التخلي عن ذرائعها القديمة".
عندما سُئِلَ كسنجر في مقابلة له عام 2016 عن أسباب فوز ترامب كان رده أن هناك فجوة واضحة بين منظور العامة ومنظور النخب حول السياسة الأميركية الخارجية والحالة الداخلية. والذي زود في هذا الشرخ هجمات الأوساط الفكرية والأكاديمية على قيم العامة خاصة في وسط أميركا لذلك انتخب ترامب كفرصة للإصلاح بينهما.
وقد ذكر أيضا كسنجر في المقابلة أن "دونالد ترامب ظاهرة لم ترها الدول الأجنبية في أمريكا من قبل، فقد يعتبرها البعض تجربة مروعة لكن في الوقت نفسه ممكن أن تكون فرصة غير عادية".
إن فوز ترامب في الرئاسة شكل صدمة لدى الدول الديمقراطية خاصة الدول الأوروبية، وقد برز ذلك مؤخرا في الأزمة بين السفير البريطاني لدى أميركا، كيم داروش، وترامب. فقد وصف السفير البريطاني ترامب، في المذكرات الدبلوماسية التي نشرتها صحيفة "مايل أون صنداي" البريطانية بأنه، "غير كفؤ" وأنه "شخص غير مستقر" وكذلك قوله إن رئاسة ترامب قد "تتحطم وتحترق" و"تنتهي بوصمة عار". وقد أثارت هذه التسريبات غضب الرئيس الأميركي ورد عليه بهجوم لاذع عبر حسابه على موقع تويتر بالقول إن "السفير الغريب الأطوار الذي أرسلته بريطانيا إلى الولايات المتحدة ليس شخصا يثير إعجابنا، إنه شخص غبي جدا". وقد نجم عن هذه الأزمة استقالة سفير بريطانيا.
إن هذه الصدمة على المستوى الأوروبي صاحبتها أيضا صدمات من مؤسسات في الداخل الأميركي تشمل الإعلام الذي لا يكف بالهجوم على ترامب على مدار الساعة، ولهذا السبب يستخدم ترامب تويتر بكثافة لأن معاملة الإعلام جائرة وغير عادلة على حد تعبيره. فقد ذكر في تغريدة له في العام 2016، "لو كانت الصحافة تغطيني بدقة وشرف، لن يكون لدي أي سبب للتغريد. لا أعرف ما إذا كان هذا سيحدث على الإطلاق". وقد أكد على ذلك كيسنجر في مقابلته، "الليبراليون وكل من يفضلون (هيلاري) كلينتون لن يعترفوا بذلك أبدا. لن يعترفوا أبدا أن هذا الرجل قام بإحداث تغيير كما لم يحدث من قبل وهو يفعل كل ذلك من أجل شعب هذه الأمة".
هناك عدة أسباب لهجوم مؤسسات أساسية مثل الإعلام والأحزاب السياسية في الأنظمة الديمقراطية على القادة الشعبويين مثل دونالد ترامب. أحد تلك الأسباب يمكن استنباطه من تعريف الشعبوية بحسب العلوم السياسية، ويمكن صياغتها بالشكل التالي: ينقسم المجتمع إلى مجموعتين على خلاف مع بعضهما البعض وهما: الشعب الطاهر والنخبة الفاسدة وأن هذا الرئيس الشعبوي هو صوت ذلك الشعب أو بوصف آخر أنه ليس فردا بل هو الشعب.
فالذي يثير تخوف أغلب السياسيين أن القادة الشعبويين يميلون إلى كراهية الأنظمة الديمقراطية المعقدة للحكومات، ويفضلون الديمقراطية المباشرة مثل الاستفتاءات. وهذا قد يثير فكرة أن الشعوب معصومة عن الأخطاء وبناء على ذلك يتخذ القائد الشعبوي قرارات غير ممكن اتخاذها في الديمقراطيات التقليدية، لذلك قد يصور من قبل معارضيه على أنه هجومي أو ديكتاتوري أو فظ يتصرف بطريقة ليست نموذجية ممكن أن تؤدي إلى أزمات مستدامة.
من المخاوف الأخرى التي حللها الخبراء أن الشعبوية قد تقلل من شأن معايير مهمة جدا بالنسبة لنخب ساسة الديمقراطية الليبرالية مثل التعددية الثقافية والعولمة. فالشعبوية ظهرت بشكل أكبر في أميركا مؤخرا بسبب استياء لكثير من أفراد الشعب لأن الليبراليين مهتمين بتلك المعايير على حساب هويتهم الوطنية التي ضاعت في نظرهم. لذلك يشدد القادة الشعبويون على الهوية الوطنية المناهضة لمفاهيم النخب، وهو ما يردده ترامب في خطاباته، بقوله إنه يضع أميركا وشعبها في المرتبة الأولى. بالتالي نجد ردة فعل الليبراليين غاضبة ولهذا السبب تتهم النخب الليبرالية شعبوية ترامب بأنها عنصرية ومتطرفة لأنها لو نجحت ستهدد معاييرهم.
وما تخشاه تلك النخب السياسية أن الشعبوية ستزيد من توطيد فكرة فساد النخب التي نشأت بعد الأزمة المالية التي حدثت عام 2008 والأزمة المصرفية والديون التي حدثت في عام 2011. ففساد تلك النخب، في نظر كثير من العامة، هو سبب الأزمات الاقتصادية. وهذه إحدى أسباب تدهور ثقة الشعوب في المؤسسة السياسية ولجوئهم لانتخاب مرشحين خارج هذه المؤسسة.
وقد أكد ترامب على ذلك في خطابه أثناء مراسم تنصيبه، "لفترة طويلة جنت مجموعة صغيرة في عاصمة بلادنا مكاسب الحكومة بينما تحمل الشعب التكلفة. ازدهرت واشنطن، لكن الشعب لم يحصل على حصة من ثروته. ازدهر السياسيون، ولكن تركت الأعمال وأغلقت المصانع. وحمت المؤسسة نفسها لكنها لم تقم بحماية مواطني بلدنا".
وهنا قد يتساءل البعض ما هي مدى جودة الشعبوية للديمقراطية؟
في السنوات الأخيرة، ظهرت دراسات ومناظرات علمية شهدت نقاشا كبيرا حول ظهور الشعبوية الجديدة في الديمقراطيات الغربية؛ وشهد الوسط الأكاديمي خلافا بين الأكاديميين والمثقفين حول تعريف الشعبوية.
بعض الخبراء يفسرون الشعبوية بالنسبة للديمقراطية مثل الإعلام الجديد بالنسبة للإعلام التقليدي، وما أحدثته التكنولوجيا من ثورة من خلال توفير إمكانية التخاطب المباشر مع الجمهور وإضفاء الخصخصة في توصيل المعلومة بدون التقيد بمفاهيم الإعلام التقليدي التي لا تعطي الجمهور الحق بالتعبير بنفس مساحة الحرية.
فالشعبوية عبارة عن نهج ينادي باستخدام الديمقراطية المباشرة كأداة لتمكين المواطنين، لذلك ينتقد القادة الشعبويين الديمقراطية التقليدية لعدم مشاركة الشعب الكافية ويرون أن على الديمقراطية أن تكون أكثر تشاركية. وهذا قد يفسر استخدام أغلب القادة الشعبويين للإعلام الجديد لأنه يمثلهم في نفس النهج التفاعلي المتحرر من القيود.
ما زالت الدراسات عن الشعبوية مستمرة لكن المعضلة كيف يمكن تحويلها من تهديد إلى فرصة لتجديد الديمقراطية التقليدية الحالية. فالساسة التقليديون في أميركا الشمالية وأوروبا ما زالوا يرون الشعبوية على أنها تهديد لقيم الديمقراطية الليبرالية، وحتى تكون الشعبوية فرصة لتطوير الديمقراطية لا بد لقادتها ومؤيديها أن يكونوا ضمن المؤسسة السياسية، وهذا لن يكون إلا من خلال المناظرات والنقاش وليس من خلال الهجوم والشتائم التي نشاهدها كل يوم في الإعلام.
اقرأ للكاتبة أيضا: كراهية اليهود جزء من الثقافة الأوروبية لا العربية
ـــــــــــــــــــــ الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).