الدعاية الإيرانية تحرض ضد القطاع المصرفي
الدعاية الإيرانية تحرض ضد القطاع المصرفي

حسين عبدالحسين/

في التاريخ أحداث تبدو صغيرة أحيانا، ولكنها تشكل منعطفات تاريخية أساسية. في العام 1969، حاولت حكومة لبنان فرض سيادتها على المليشيات الفلسطينية في لبنان للتوصل لتسوية معها برعاية الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر. سافر الوفد اللبناني إلى القاهرة، وتأخر رئيس فتح الفلسطينية ياسر عرفات، ولم يحضر إلا بعدما أسقط الفلسطينيون مقاتلة هوكر هنتر عسكرية لبنانية، فبدا واضحا أن الجيش اللبناني غير قادر على الانتصار على عرفات أو فرض الإرادة اللبنانية عليه، فكانت "اتفاقية القاهرة" بين الطرفين.

والاتفاقية المذكورة فصلت بين دولة وحكومة لبنان، من ناحية، ودولة عرفات وميليشياته، من ناحية ثانية، فلم تحمّل إسرائيل بعد ذلك بيروت مسؤولية الهجمات الفلسطينية عبر الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية، بل راح الإسرائيليون يضربون معاقل الفلسطينيين، ويتفادون الالتحام مع دولة لبنان أو جيشه.

إيران وحلفاؤها في لبنان لا يستسيغون استقلال القطاع المصرفي اللبناني

​​أخبرني يوما عميد في الجيش اللبناني من مشايخ آل دحداح، وهي عائلة مسيحية مارونية لبنانية عريقة، أنه كان آمرا لمنطقة الجنوب، وأنه كان يعاني من لا انضباطية أحد ضباطه، وكان اسم الضابط ميشال عون، رئيس لبنان اليوم. في أحد الأيام، صدرت أوامر سياسية إلى الدحداح بالرد على هجوم إسرائيلي على مواقع فلسطينية داخل لبنان. "رفعت استنفار قطعاتي إلى الحد الأقصى، واستهدفنا مواقع إسرائيلية بشكل مباشر"، قال الدحداح، وكان يوم يحدثني لواء متقاعدا. "بعد دقائق، أغارت إسرائيل على كل بطاريات مدافعنا، ودمرتها بالكامل".

كيف يمكن لأي جيش أو ميليشيا عسكرية لبنانية منافسة إسرائيل بدون غطاء جوي ضد التحكم الإسرائيلي الكامل بالسماء؟ من يعرف تاريخ الحروب العربية ـ الإسرائيلية، يعلم أن عبور مصر خط بارليف الإسرائيلي المحصن في قناة السويس، في العام 1973، كان سببه المظلة الجوية التي أمنتها منظومة سام السوفياتية للدفاع الجوي. ثم أصر الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد على نظيره المصري أنور السادات أن تتقدم القوات المصرية أكثر لرفع الضغط عن جبهة الجولان السورية، فأمر السادات قواته ـ على عكس نصيحة ضباطه ـ بالهجوم خارج مظلة سام، فاستعاد الإسرائيليون تفوقهم والأراضي التي خسروها، بل قضوا على الدفاعات المصرية بالكامل، وصارت القاهرة مفتوحة أمام الدبابات الإسرائيلية بقيادة الضابط، رئيس الحكومة فيما بعد، أرييل شارون، فرضخ السادات، وطلب هدنة، وفهم استحالة تفوق العرب على إسرائيل بلا تفوق جوي، وهذا مستحيل طالما أن أميركا هي أقوى قوة جوية في العالم.

لم تقرأ الميليشيات اللبنانية الموالية لإيران التاريخ. ربما هي قرأت تاريخ هزيمة الإمام الحسين في كربلاء في القرن الميلادي السابع، ولكنها لم تقرأ التاريخ العسكري للحروب العربية ـ الإسرائيلية. هكذا، أكمل "حزب الله" اللبناني حرب الميليشيات ضد إسرائيل من حيث توقف عرفات، على إثر حرب 1982.

وفي العام 1996، وبجهود رئيس حكومة لبنان الراحل رفيق الحريري، عاد "اتفاق القاهرة" إلى الحياة، هذه المرة تحت اسم "اتفاق نيسان"، وهو كان يقضي بتحييد دولة لبنان وجيشه عن مواجهات "حزب الله" مع إسرائيل، وهو تدبير بقي قائما حتى صيف العام 2006.

في حرب 2006، التي تصادف ذكراها الثالثة عشرة هذا الشهر، تفادت إسرائيل الالتحام مع الجيش اللبناني أو ضرب دولة لبنان أو مؤسساتها، إلى أن أغرق حزب الله السفينة الإسرائيلية الحربية ساعر. يومذاك، عرفت إسرائيل أن "حزب الله" حصل على إحداثيات موقع السفينة من رادارات الجيش اللبناني البحرية، فدمرت إسرائيل كل هذه الرادارات. يومذاك أيضا، اعتبرت إسرائيل أن الفارق بين دولة لبنان ودولة "حزب الله" انتهى، وأن إسرائيل ستدمر لبنان، "شعبا وجيشا ومقاومة"، في أي حرب مقبلة. لهذا السبب، ولفداحة أي حرب ممكنة، تجمدت جبهة لبنان إسرائيل، وراحت إسرائيل تبحث عمّن يمكنه ضبط لبنان، فعاد الرئيس السوري بشار الأسد إلى الحياة وخرج من عزلته الدولية. لكن الأسد انهار في حربه على شعبه، فصار لبنان في عهدة إيران، وصار جنوب سوريا ساحة مفتوحة لحرب قائمة بين إسرائيل وإيران.

بإغراقه السفينة الحربية الإسرائيلية ساعر، أغرق "حزب الله" سيادة لبنان، وأعلنه محافظة إيرانية، وربط مصيره بمصير إيران، فراحت أميركا تفرض عقوباتها على الاثنين سوية. وحده قطاع المصارف في لبنان يسعى للنجاة من الغرق والحفاظ على ارتباطه بالشبكة المالية الدولية، التي تديرها الولايات المتحدة، مع ما يعني ذلك من نأي القطاع اللبناني المصرفي بنفسه عن إيران و"حزب الله"، وعن نشاطاتهما المالية.

لا يبدو أن لبنان سيخرج من حرب لا ناقة له فيها ولا جمل

​​لكن إيران وحلفاءها في لبنان لا يستسيغون استقلال القطاع المصرفي اللبناني، فراحت الدعاية الإيرانية تحرض ضد هذا القطاع، وتتهمه بالعمالة، فإيران تتصور أنه يمكنها مواجهة "الاستكبار" الأميركي والعقوبات بإقامة منظومة اقتصادية إقليمية، أو ما تسميه "اقتصاد المقاومة"، وتعتقد أنها بمساعدة الصين وروسيا، وبعض أوروبا، تستطيع التفلت من القوة الأميركية. لكن حتى الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، بالكاد يمكنها حماية نقدها الوطني بدون الحظر الذي تفرضه على خروج النقد الأجنبي من الصين. أما روسيا، فنقدها، كما إيران، يفقد قيمته، وإذا ما انخرطت مصارف لبنان في "اقتصاد المقاومة"، فالغالب أن الليرة اللبنانية ستعاني، وهي أصلا بدأت تهتز في السوق السوداء.

لا سيادة في لبنان، ولا حتى "اتفاقية قاهرة أو نيسان" لتحييد دولة لبنان ومصارفه عن حروب العالم، طالما أن سيادة لبنان ليست حصرية لشعبه، على عادة الدول، بل يشاركه فيها الجيش و"المقاومة"، وهو ما أدى إلى غرق السيادة اللبنانية مع ساعر، التي سحبها الإسرائيليون إلى مرفأ حيفا، لتخرج من الحرب. أما لبنان، فلا يبدو أنه سيخرج من حرب لا ناقة له فيها ولا جمل.

اقرأ للكاتب أيضا: "جِنّ" نتفليكس يخترق المحظورات

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.