مصري يقرأ القرآن من جامع الأزهر التاريخي
مصري يقرأ القرآن من جامع الأزهر التاريخي

بابكر فيصل/

قلت في الجزء الأول من هذا المقال إن المرة الأولى التي تم فيها استدعاء الوحي "القرآن" كسلطة لإسناد وتبرير المواقف السياسية كانت إبان ما عرف في التاريخ الإسلامي بالفتنة الكبرى التي اصطرع فيها طرفان من الجماعة المسلمة، تزعم أحدهما الخليفة الرابع على بن أبي طالب، بينما وقف على رأس الثاني، معاوية بن أبي سفيان.

قام الطرفان باستدعاء القرآن للمعركة، كلٌ بحسب طريقته، حيث عمد معاوية إلى استخدامه كسلطة رادعة للخصوم من خلال رفعه على أسنة الرماح، بينما استدعاه الإمام على كحقل مفتوح للمعرفة والتأويل من خلال مقولته "القرآن بين دفتي المصحف لا ينطق وإنما يتحدث به الرجال"، ومنذ أن تحقق النصر النهائي لمعاوية سادت في التاريخ الإسلامي طريقته في استحضار الوحي لتحقيق المرامي السياسية وردع الخصوم.

غرض الغزالي من تأليف كتاب في "علم الدين" هو فقط "شكر النعمة" التي أنعم بها عليه الخليفة

​​قد استمر استدعاء الدين من أجل قمع الخصوم طوال التاريخ الإسلامي، فعلى سبيل المثال قام الأمويون بابتداع عقيدتي "الجبر والإرجاء" اللتان تمنحان الخلفاء المبرر الذي يمكنهم من مخالفة الأوامر الدينية والتنكيل بالمعارضين دون أن يتعرضوا للمساءلة.

حيث تذهب العقيدة الأولى إلى أن جميع ما يقع من أفعال إنما هو بقدر الله تعالى، وأن الانسان كالريشة في مهب الريح، لا فعل له على الحقيقة إلا الاستسلام لذلك القدر، وأن الملوك الظلمة هم عقاب من الله، وإنما ظلمهم وبطشهم ما هو إلا شيء خارج عن إرادتهم.

أما الإرجاء فإنه يرتبط ارتباطا وثيقا بالجبر، إذ أنه يفيد بأن الخلفاء والأمراء مهما استحلوا من المحرمات وفعلوا من الموبقات وارتكبوا من الانحرافات فإنهم لا يخرجون من دائرة الاسلام ما داموا يُقرِّون بالشهادتين، وأن حسابهم والحكم عليهم يجب أن يُرجأ إلى يوم القيامة.

ومن ناحية أخرى، فقد سعى بعض العلماء والفقهاء إلى تقديم خدماتهم للسلاطين والفقهاء عبر تأليف الكتب وإصدار الفتاوى من أجل تثبيتهم في السلطة، حتى أن آرائهم التي خرجوا بها في ذلك الإطار باتت جزءا من الشريعة التي يتم الدعوة لتطبيقها اليوم، كما أنها ساهمت في تأجيج الخلافات بين مختلف المذاهب من منطلق الدين بينما هي في الواقع وليدة الأغراض السياسية.

ويبرز من بين الأسماء التي دخلت في هذا الإطار الفقيه والصوفي والمتكلم الأشعري الكبير، أبو حامد الغزالي، الملقب بحجة الإسلام وصاحب كتاب "فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية"، الذي قام بتأليف ذلك السفر بطلب من الخليفة العباسي، أبو العباس أحمد بن عبد الله، الملقب بـ "المستظهر بالله" وسطر في مقدمته الكلام التالي:

"أما بعد فإني لم أزل مدة المقام بمدينة السلام متشوفا إلى أن أخدم المواقف المقدسة النبوية الإمامية المستظهرية، ضعف الله جلالها ومد على طبقات الخلق ظلالها، بتصنيف كتاب في علم الدين أقضي به شكر النعمة وأقيم به رسم الخدمة وأجتني بما أتعاطاه من الكلفة ثمار القبول والزلفة، لكني جنحت إلى التواني للتحري في تعيين العلم الذي أقصده بالتصنيف وتخصيص الفن الذي يقع موقع الرضا من الرأي النبوي الشريف، فكانت هذه الحيرة تغير في وجه المراد وتمنع القريحة عن الإذعان والانقياد، حتى خرجت الأوامر الشريفة المقدسة النبوية المستظهرية بالإشارة إلى الخادم في تصنيف كتاب في الرد على الباطنية".

إن أول ما نلاحظه في الحديث أعلاه هو أن الغزالي يجعل من نفسه "خادما" لمواقف الخليفة التي يصفها بـ"المقدسة النبوية الإمامية المستظهرية"، وهى صفات تضفي هالة كبيرة من التقديس على الخليفة ومواقفه.

ثم أنه يوضح بجلاء لا لبس فيه أن غرضه من تأليف كتاب في "علم الدين" هو فقط "شكر النعمة" التي أنعم بها عليه الخليفة وحتى ينال به ثمار القبول والزلفة، وليس الهدف منه هو خدمة الدين عبر نشر كتاب يتعلم منه خاصة المسلمين وجمهورهم شؤون دينهم.

وكذلك يعترف حجة الإسلام أنه لم يكن لديه موضوع معين للكتابة تدفعه إليه رغبة في التأليف يستطيع من خلالها إشباع شغف علمي أو تأدية رسالة دينية يمليها عليه إيمانه، بل إن محركه الأساسي للكتابة هو أن يحظى مؤلفه بموقع "الرضا من الرأي النبوي الشريف".

لا يُعاني الغزالي من الحيرة التي تعتري الفيلسوف أو الصوفي أو المفكر في بحثهم عن الحقيقة، ولكنه يُعاني نوعا من الحيرة باعثه الأساسي ليس الشغف المعرفي، إنها الحيرة المتعلقة باختيار موضوع للتأليف يجد صدى في نفس السلطان، حتى إذا ما خرجت التوجيهات الشريفة النبوية بالإشارة "للخادم" بتصنيف كتاب في الهجوم على الباطنية، ذهبت الحيرة وارتاح البال وشمَّر الأخير عن ساعد الكتابة استجابة للأمر المقدس!

إن القراءة الموضوعية للظرف التاريخي الذي سطر فيه الغزالي سفره المشار إليه، تفيد بأن الغرض من كتابته لم يكن دينيا، بل سياسيا يعكس حالة الاضطراب والمعارضة الداخلية التي كانت تعيشها الدولة العباسية أبان حكم الخليفة المستظهر، وهي الفترة التي شهدت الكثير من المعارك مع الصليبيين، كما شكل الشيعة الخطر الأيديولوجي الأكبر الذي هدد بزوال المرجعية العباسية.

كانت الدولة العباسية في فترة حكم المستظهر بحاجة ماسة إلى إجراء عملية تنظير للأيديولوجية (العقيدة) السنية لمواجهة الخطر الشيعي الإسماعيلي الباطني المتماسك فكريا والمتحالف مع الخلافة الفاطمية في مصر فوجدت ضالتها في الغزالي الذي قرر أن يرمي بثقله إلى جانبها في تلك المواجهة.

استمر استدعاء الدين من أجل قمع الخصوم طوال التاريخ الإسلامي

​​قام الغزالي بتخصيص قسم كامل من كتابه المذكور لتقديم البراهين على أن "الإمام الحق القائم بالحق الواجب على الخلق طاعته هو الإمام المستظهر"، كما أوضح أنه يجب على "علماء الدهر الفتوى على البت والقطع بوجوب طاعته على الخلق ونفوذ أقضيته بمنهج الحق وصحة توليته للولاة وتقليده للقضاة" وأنه خليفة الله على الخلق وأن طاعته على جميع الخلق فرض.

وإذ يُجادل البعض أنه لا يمكن اتهام الغزالي بتوظيف الدين لخدمة الدولة العباسية ويقولون إنه لم يضع في كتابه المذكور أية نوع من التشريعات تبرر ذلك الاتهام حيث أن مادة الكتاب لا تنتمي لعلم أصول الفقه بل لعلم الكلام، فإنهم إنما يتجاهلون حقيقة أن حُجة الإسلام يعتبر أن "العلم الكلي من العلوم الدينية هو الكلام، وسائر العلوم من الفقه وأصوله، والحديث والتفسير علوم جزئية".

وبما أن الغزالي يعتبر أن الكلام هو العلم الديني الكلي، فإن مادته بالضرورة تشكل الأساس الذي تنبني عليه العلوم الجزئية (بما فيها أصول الفقه)، وهو ما يؤكد حقيقة أن كتاب فضائح الباطنية ليس سوى كتاب في "علم الدين" قصد منه تشكيل الأرضية الدينية (عقيدة، وحديث، وتشريع إلخ) من أجل تحقيق هدف سياسي هو إسناد موقف الدولة العباسية (السنية) في مواجهة المد الشيعي الإسماعيلي.

اقرأ للكاتب أيضا: ثورة السودان: اتفاق يمهد الطريق نحو التحول الديمقراطي

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.