تحاول تركيا ـ أردوعان أن توازي بين ميولها ومصالحها شرقا وغربا
تحاول تركيا ـ أردوعان أن توازي بين ميولها ومصالحها شرقا وغربا

جويس كرم/

ما لا يقل عن 13 طائرة تحمل قطع منظومة الـ "أس 400" الروسية للدفاع الصاروخي وصلت تركيا في الأيام السبع الأخيرة لتفتح، قبل أي شيء آخر، باب المواجهة الاقتصادية مع الغرب، ولتدق إسفينا وتعلن شبه انقلاب في توجه وعلاقة أنقرة بالأوروبيين وأميركا، وهي العلاقة الثابتة تاريخيا منذ الحرب الباردة.

اختار رجب طيب أردوغان اللعب على الحبلين، بالبقاء في حلف الشمال الأطلسي (الناتو) من جهة والتمرد عليه من جهة أخرى بشراء منظومة تهدد وتتضارب مع طائراته وسلاحه الدفاعي، وتعزز خصمه الأول أي روسيا. 

تحاول تركيا ـ أردوعان أن توازي بين ميولها ومصالحها شرقا وغربا، وأن تتموضع في موقع محايد في سياستها الدفاعية والخارجية، متناسية أن اقتصادها ومصالحها الدفاعية طوال العقود الستة الفائتة مبنية على ثقة الغرب، وأن لا حياد تجاه صفقة المليارين ونصف المليار دولار مع فلاديمير بوتين.

أزمة تركيا في واشنطن لا تنحصر في ملف "أس ـ 400" وترتبط بسياسات أردوغان عموما

​​ضرب أردوغان بعرض الحائط عقيدة تركيا في الحرب الباردة والحماية الأمنية التي تلقتها من الولايات المتحدة، والتحالف الساري مع الأوروبيين وواشنطن ما بعد ذلك في حربي يوغوسلافيا والكويت، وضمان مصالح أنقرة في العراق. هل هو تأزم الربيع العربي أو فشل سياسة أحمد داود أوغلو "صفر مشاكل" الذي دفع أردوعان إلى أحضان روسيا؟ أم هل هو الخوف من نفوذ موسكو وانتقامها من تركيا في سوريا أو مع الأكراد في حال تراجعت عن صفقة الصواريخ؟

سيكشف الوقت حسابات أردوغان، لكن العواقب بدأت مع الغرب وما من حصانة لا رئاسية في البيت الأبيض ولا أمنية من الاتحاد الأوروبي ستوقف تداعيات القرار.

طرد تركيا من تحالف طائرات "أف ـ 35" ليس مفاجئا، وهو أول الخطوات التي بدأت بها واشنطن للرد على أنقرة. مئة طائرة "برق" من طراز النخبة (النسخة الأجدد من"أف ـ 35") كانت تنتظر أنقرة، جرى إلغاؤها، والخسارة المتوقعة على تركيا تناهز تسعة مليار دولار بحسب وزارة الدفاع الأميركية. الطيارون الأتراك الموجودون في الولايات المتحدة للتدرب على البرنامج فسيتم طردهم خلال أسبوعين. عضوية تركيا في تحالف "أف ـ 35" سيتم استبداله بدولة على الأرجح أوروبية مثل بولندا، أما حصة أنقرة، فبدأت شركة لوكهيد مارتن بتعويضها وبيع بعضها لهولندا.

بدأ مسلسل العقوبات بدأ بطائرات "أف ـ 35" إنما سيطال الرخص والتعاون الدفاعي والاقتصادي مع الولايات المتحدة. فقانون "كاتسا" الذي مرره الكونغرس بغالبية 98 في المئة في 2017 يقضي باستهداف الرخص الدفاعية، والتبادل التجاري، والتعاون العسكري مع أي دولة تقوم بـ"تبادلات ضخمة" مع روسيا أو إيران أو كوريا الشمالية. ينص "كاتسا" أن على وزير الخارجية الأميركية اختيار خمسة عقوبات من 12 متاحة وفرضها على الجهة التي خرقت القانون، وتم استخدامه ضد الصين في 2018 لشرائها معدات عسكرية من روسيا.

الهروب باتجاه روسيا يفاقم أزمة أردوغان غربا

​​تعد تركيا أكثر حساسية من الصين بالنسبة للعقوبات الأميركية، وعقوبات أخرى ترتبط بقطاع الغاز قد يباشر بها الاتحاد الأوروبي. الليرة التركية في انخفاض مستمر، ومؤشرات الاقتصاد التركي تتراجع على وقع الديون والأزمات الإقليمية والداخلية. رهان أردوغان هو في إمكانية أن يؤجل الرئيس الأميركي دونالد ترامب العقوبات 180 يوما أو ينقضها بواسطة الفيتو، إنما لدى الكونغرس الذي سيراجع هذه القرارات ما يكفي من الأصوات (الثلثين) لنقض الفيتو وتخطي سلطة الرئيس في حال قرر ذلك.

أزمة تركيا في واشنطن لا تنحصر في ملف "أس ـ 400" وترتبط بسياسات أردوغان عموما من اسطنبول وقمع الحريات إلى التنقيب عن الغاز في قبرص والتلويح بعمليات عسكرية في سوريا والعراق وطريقة التعامل مع الأكراد. فالهروب باتجاه روسيا يفاقم أزمة أردوغان غربا، من دون أن يوفر حلولا لأزمات إقليمية متفاقمة لأنقرة في العراق وسوريا وأخرى بدأت بالتضخم مع قبرص والاتحاد الأوروبي.

اقرأ للكاتبة أيضا: عقوبات واشنطن على حزب الله: ثلاث رسائل

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.