لاجئون فلسطينيون يتظاهرون في مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين رفضا لقرار وزير العمل اللبناني
لاجئون فلسطينيون يتظاهرون في مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين رفضا لقرار وزير العمل اللبناني

حازم الأمين/

زمن الانحطاط اللبناني امتد ليشمل أوضاع اللاجئين الفلسطينيين. التفسير الوحيد المتداول لقرار وزير العمل اللبناني كميل أبو سليمان القاضي بمعاملة اللاجئين الفلسطينيين معاملة العمال الأجانب، هو أن أبو سليمان يمثل القوات اللبنانية، والأخيرة شعرت أن منافسها المسيحي جبران باسيل استطاع أن يحشد مزيدا من المناصرين بعد الحملة التي شنها على اللاجئين السوريين، فقررت "القوات" منافسة باسيل على أرضه. واختارت هدفا سهلا. اللاجئون الفلسطينيون!

ماذا يريد وزير العمل اللبناني من وراء "تفعيل القانون" على ما سمى خطوته؟ ثمة نحو ثلاثمئة ألف لاجئ فلسطيني اقتُلِع أجدادهم من أرضهم قبل نحو 70 عاما، وتم الدفع بهم إلى لبنان. وهؤلاء اللاجئون يعيشون اليوم أسوأ ظروف العيش، ومحاصرون في مخيمات تفتقر إلى الحد الأدنى من الشروط الصحية والحياتية. الوكالة الدولية لغوث اللاجئين "الأونروا" خفضت خدماتها لهم الصحية والتعليمية والغذائية إلى الحد الأدنى. هؤلاء هم من قرر وزيرنا الكبير أن يعامل اليد العاملة منهم معاملة العمال الأجانب!

اللاجئون الفلسطينيون في لبنان اليوم خارج أي مشروع سياسي داخلي

​​يفتقر قرار الوزير طبعا لأي بعد أخلاقي، لكن الأهم أنه يفتقر لتقدير المصلحة اللبنانية. ذاك أن حرب جبران باسيل على اللاجئين السوريين، على عنصريتها وضيقها ونزقها، تدعى أن عودة هؤلاء إلى بلدهم ممكنة، وأن عليهم أن يباشروا بالعودة! لكن هل يملك أبو سليمان ادعاء مماثلا؟ هل لديه مشروعا لإعادة اللاجئين الفلسطينيين إلى فلسطين أو إلى إسرائيل؟

فهو بقراره يحرمهم من شرط رئيسي لبقائهم على قيد الحياة، وهذا يعني إما قرارا بإعادتهم إلى بلادهم، وإما تمويتهم! ومن سيكون في مواجهة الموت جوعا لن يدخر وسيلة لدفع الموت عن نفسه وعن عائلته.

اللاجئون الفلسطينيون في لبنان اليوم خارج أي مشروع سياسي داخلي، على ما كانت حالهم في مرحلة الصدام بين المسيحيين اللبنانيين وبين منظمة التحرير الفلسطينية. هم أكثر المجموعات السكانية ضعفا في لبنان. هم أيتام منظمة التحرير الفلسطينية على نحو ما هم أيتام العالم. قرار الوزير القواتي لا ينطوي على أي مروءة، مثلما يفتقد لأدنى شعور إنساني. والحال أن المرء ليخاف من حقيقة أن القوى المسيحية اليوم استعاضت عن فكرتها عن لبنان كبلد مختلف عن محيطه ومتقدم عليه، بفهم ضيق ورجعي وعنصري للوطنية، وهو فهم مُهدِد من جهة أخرى لما تبقى من كيان. في سبعينيات القرن الفائت كانت الحرب مع منظمة التحرير حرب دفاعٍ عن الكيان في وجه قوى قررت أن لبنان هو جزء من منظومة الحرب الإقليمية. أما اليوم فالحرب على اللاجئين الفلسطينيين هي حرب على مجموعة بشرية ضعيفة، هي أصلا ضحية الترانسفير الذي تواطأ العالم على تمريره في العام 1948.

هل فكر وزير العمل اللبناني ماذا يعني القرار لشاب فلسطيني يعيش في مخيم عين الحلوة؟ هذا الشاب سيكون عاطلا من العمل، وعائلته تفقد تدريجيا خدمات الحد الأدنى التي كانت تتلقاها من "الأونروا"، وهو محاصر في المخيم وممنوع عليه الخروج منه. وهذا الشاب لا ينتظر العودة إلى بلده، على ما يمكن أن يساور لاجئا سوريا من أوهام.

لبنان إذا ما أراد التعامل مع اللاجئين الفلسطينيين على نحو ما يتعامل مع اللاجئين السوريين، فليس أمامه سوى قتلهم بنفسه. بالنسبة للسوريين، يسعى لبنان لتسليم اللاجئين للنظام، والأخير سيتولى قتلهم، أما بالنسبة للفلسطينيين، فلن يجد من يقتلهم وعليه أن يبادر لفعلها بنفسه.

لقد مات جوهر الكيان وانهزم صانعه، وورثه صغار عديمو الخيال

​​وهنا يكمن بعد ثالث لقرار الوزير هو غياب العقلانية، وانعدام تقدير المصلحة الوطنية اللبنانية. ذاك أن أيا منا إذا ما مر بظرف مشابه لظروف ذلك الشاب، فلن يتردد في حمل السلاح، وفي تلبية دعوات لـ"الجهاد" إذا ما وُجهت له، وحينها سيجد الوزير مخرجا لمأزقه عبر الحديث عن البؤر الأمنية في المخيمات الفلسطينية، وعلينا نحن المواطنون الذين استعدنا بلدنا من براثن اللاجئين أن نصدقه. لكن ما العمل يا وزير العمل؟ المخيمات بؤر أمنية، فما هي الخطة التي تملكها لمعالجة هذه المعضلة؟ تجويع السكان؟ هل يمكنك مواجهة جائعين؟ أم إعادتهم إلى بلادهم؟ هل يمكنك إعادتهم؟ منافسك جبران باسيل يدعي أن لديه خطة لإعادة اللاجئين السوريين، فهل لديك خطة موازية لإعادة اللاجئين الفلسطينيين؟

هذا الاستعصاء يصور أمامنا حقيقة مأساوية لبنانية قبل أن تكون فلسطينية أو سورية. لقد مات جوهر الكيان وانهزم صانعه، وورثه صغار عديمو الخيال يتسابقون على التقاط غنائم، قبل أن يغادروا ويتركوننا نحن أهل الطوائف الأخرى لمصائرنا البائسة بؤس هذا الإقليم.

اقرأ للكاتب أيضا: لبنان في زمن العقوبات

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.