أمير قطر مغادرا البيت الأبيض
أمير قطر مغادرا البيت الأبيض

نيرڤانا محمود/

"للأسف، هناك البعض في منطقتنا ممن لا يشاركونا موقفنا، وفي العالم المعاصر تجبر الظروف في بعض الأحيان على عقد التحالفات مع شركاء لا بد منهم، فيما هناك حلفاء ليسوا بالضرورة أصدقاء".

استوقفني هذا المقطع من كلمة لأمير قطر أثناء زيارته الأخيرة إلى لولايات المتحدة الأميركية. إذ لقد لخص أهداف زيارة الأمير تميم لواشنطن ببساطة ووضوح.

جاء أمير قطر ليقدم أسبابا مقنعة لحليفه الأميركي عن مغزى علاقاته الوطيدة بألد أعداء الولايات المتحدة، كالنظام الإيراني، وليبرر تقاربه من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالرغم من توتر العلاقات الحالي بين تركيا وأميركا. وبالطبع ليدافع عن نظامه، في ظل استمرار الأزمة القطرية ـ الخليجية.

استراتيجيات الدوحة تقوم على تقديرات خاطئة

​​حاولت الدوحة، منذ بداية الأزمة القطرية، أن تجد لها مخرجا، بدون تقديم أي تنازلات للمحور السعودي. ولتحقيق هذا الهدف، قرر النظام القطري أن يوطد علاقاته بثلاث قوى متنافسة في الشرق الأوسط: إيران، وتركيا، بالإضافة إلى حليفه الرئيسي الولايات المتحدة الأميركية.

في البداية، اعتقدت الدوحة أن علاقاتها الثلاثية الأبعاد لن تكون مكلفة أو معقدة، وأن التقارب من إيران وتركيا لن يؤثر سلبا على علاقتها بواشنطن.

الآن ومع ازدياد التوتر بين طهران وواشنطن من ناحية وبين أنقرة وواشنطن من ناحية أخرى، أدرك النظام القطري أن علاقاته الإقليمية أصبحت أكثر تكلفة، وأن عليه أن يغير من أوراقه ويسوق نفسه في واشنطن بطريقه مختلفة. وقد جاءت زيارة العاهل القطري لواشنطن في هذا الإطار، وفي جعبته رسالة بسيطة: "المال والوسيط الحسن".

الواضح من خطاب العاهل القطري، أن الدوحة تحاول أن تقنع واشنطن أن علاقات قطر بإيران وتركيا قد تخدم المصالح الأميركية، وبأن الدوحة قد تنجح فيما فشل فيه الآخرون وتتمكن من الوساطة بين إيران والولايات المتحدة.

وبالإضافة إلى تسويق نفسها كوسيط يمكن أن يُعتمد عليه بين إيران والولايات المتحدة، تركز قطر على استثماراتها في الولايات المتحدة، التي وصلت حسب الاحصائيات الرسمية القطرية، إلى 180 مليار دولار لتبرهن أنها صديق مخلص للولايات المتحدة.

يهدف كوكتيل "المال والوسيط الحسن" لكسب رضاء القطبين السياسيين في واشنطن، أي الحزبين الديمقراطي والجمهوري. فمعظم الديمقراطيين يريدون التوصل إلى اتفاق مع الإيرانيين، وأيضا يرحب البعض من كلا الحزبيين بالاستثمارات القطرية. أو كما علق الرئيس الأميركي دونالد ترامب على تجديد قطر لقاعدة العديد الجوية العسكرية: "الحمدلله هذه كانت أموالكم وليس أموالنا".

لاقى هذا الكوكتيل استحسان من بعض المراقبين والمعلقين؛ ولكن هذا الاستحسان ليس في محله. الابتهاج بالسياسة القطرية ليس في مصلحة أميركا وأيضا ليست في مصلحة قطر لأسباب عدة:

أولا: الولايات المتحدة لا تحتاج لوساطة غير حيادية 

آخر ما تحتاجه الولايات المتحدة في التعامل مع نظام انتهازي، كالنظام الإيراني، هو وسيط غير حيادي، كالوسيط القطري.

فعلى المؤيدين والمعارضين للرئيس الأميركي ترامب أن ينتبهوا إلى أن النظام القطري، الذي يعتبر أن إيران جار وصديق، لن يدافع عن مصالح الولايات المتحدة في أي مفاوضات سرية أو علنية مع إيران. بل على العكس، من مصلحة الدوحة أن تنتصر إيران في مواجهتها مع الولايات المتحدة لأن أي انتصار لنظام الملالي سيعتبر هزيمة للمحور السعودي وهذا يصب في مصلحة القطريين.

نفس النظام القطري الذي يسوق نفسه الآن كوسيط، سبق له أن دفع أكبر فدية في التاريخ لجماعات وأفراد، ككتائب حزب الله العراق والجنرال الإيراني قاسم سليماني قائد فيلق القدس، ليخلص أمرائه المخطوفين في العراق. 

ولذلك فإن الاعتماد على الوساطة القطرية في الملف النووي الإيراني هو ببساطة ضرب من العبث.

ثانيا: المال القطري ليس لوجه الله

يقول المثل الأميركي: "لا يوجد شيء اسمه وجبة مجانية" بمعنى أن هناك دافع وراء أي عرض مالي مغري. في خلال الأعوام العشر الماضية، دفعت الدوحة أكثر من 1.4 مليار دولار إلى العديد عديد من الجامعات الأميركية.

لكن للأسف، وسائل الإعلام الأميركية، التي تسلط الأضواء، بطريقة سلبية، على المال السعودي في الجامعات الأميركية، لا تطرح الأسئلة نفسها عن المال القطري.

قطر لا تضخ المال للجامعات الأميركية لوجه الله، ولكن لتحسين صورتها في المجتمع الأميركي، والأهم والأخطر هو التسويق للإسلام السياسي وترويجه على أنه أيديولوجية غير ضارة ولنفي علاقته بالإرهاب والتطرف.

ثالثا: علاقة قطر المعقدة بجماعات إرهابية

لم تمض أيام بعد زيارة أمير قطر إلى واشنطن حتى طالعتنا المواقع الإخبارية بمعلومات جديدة تكشف علاقات قطر المشبوهة. فمن إعلان القبض على خلية إرهابية تنتمي لجماعة الإخوان المسلمين في دولة الكويت، والتي ثبت أن لها صلات وثيقة بقطر، إلى فضيحة أكبر في إيطاليا، حيث تم ضبط أسلحة وصاروخ يستخدمه الجيش القطري بيد جماعات يمينية متطرفة.

رابعا: اللعب على ثلاثة حبال له مخاطر جسيمة

كما أوضح الكاتب حسين إيبش في مقاله على موقع بلومبيرغ حيث كتب: "إذا انفجر الوضع بين اثنين من حلفاء قطر، قد تواجه قطر سقوطا طويلا وصعبا". 

النظام الإيراني، يتهاوى داخليا، ليس فقط بسبب العقوبات الأميركية، بل بسبب سياساته القمعية

​​بالفعل، فالرئيس التركي، حليف قطر المفضل، فقد الكثير من بريقه وشعبيته ويواجه صعوبات جمة داخليا وخارجيا، ومن أهمها زيادة الكراهية ضد العرب بوجه عام في تركيا. وهذا سينعكس سلبا، ليس فقط على اللاجئين العرب في تركيا، ولكن حتى على حلفاء أردوغان العرب كقطر.

أما النظام الإيراني، فهو يتهاوى داخليا، ليس فقط بسبب العقوبات الأميركية، بل بسبب سياساته القمعية ضد مواطنيه، فشتاء الملالي قادم لا محالة ولن يوقفه المال القطري.

باختصار، استراتيجيات الدوحة تقوم على تقديرات خاطئة. فالوساطة لن تفلح، والمال لن يجدي، وتهم الإرهاب تتراكم.

قد تعتقد قطر أنها تتقن فن الجمباز السياسي، ولكن كما في الرياضة، كل قفزة عالية يتبعها سقوط مدوي.

اقرأ للكاتبة أيضا: انتخابات اسطنبول والمواطن العربي

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.