نواب لبنان "كفّوا ووفّوا"، في جلساتهم، وهم يناقشون مشروع قانون الموازنة لعام 2019 التي لم يبق منها سوى ما يقل عن خمسة أشهر فقط.
قالوا كل ما يمكن أن يقال عن الأوضاع "الفضائحية" التي تنال من بعضهم الذي يتنافس مع البعض الآخر. تحدثوا، بنبرات عالية وبحناجر مخشوشنة وبعيون جاحظة، عن الفساد والسرقة والهدر والتهريب والأرقام المالية المتلاعب بها، تخفيضا هنا وتضخيما هناك.
ولكنهم فيما فعلوه غيّروا طبيعة المهمة الملقاة على عاتقهم، فالمقر التاريخي الذي يفترش" ساحة النجمة" في بيروت لم يعد مجلسا للنواب، بل أصبح "هايد بارك" خاص بحزبيين يحملون لقب نواب.
في الـ"هايد بارك"، تملك القدرة على النطق بما تشاء من دون أن تكون لديك الصلاحية لحذف حرف واحد ممّا سبقت كتابته.
هؤلاء النواب يعرفون أنهم يتكلمون ليتكلموا، ولا هدف لهم أسمى من نيل بعض النجومية، فالنقاشات العامة، بالنسبة لهم، مثل شهر رمضان للممثلين، والمهرجانات الصيفية للمطربين.
الفضائح التي راكموها في كلماتهم كفيلة وحدها ليس بإسقاط الحكومة الحالية وجر سابقاتها إلى المساءلة فحسب، بل بخلع رئيس الجمهورية أيضا.
ولكن من أنّى للنواب أن يفعلوا ذلك أو حتى أن يفكروا به، فغالبيهم الساحقة جدا، تنتمي إلى كتل شكّل توافقها وتوزيع الحصص في ما بينها، الحكومة الحالية وغالبية الحكومات التي سبقت.
جل ما نجح هؤلاء النواب في تحقيقه أنهم أفسدوا النظام الديمقراطي حتى يُبقوا لأنفسهم دورا، فانتزعوا حق الاعتراض ضمن الانصياع، أي أن اعتراضهم ليس علامة تمرد على "الزعيم" وليس بابا للانشقاق عن "المقرّر"، بل هو الطريق السلس نحو رفع اليد انصياعا.
ومع انتهاء الكلمات، وتحوّل مشروع الموازنة التي لعنت الألسن الحكومة التي وضعته إلى قانون ساري المفعول، عاد النواب إلى منازلهم راضين ومرضيين، ولكن مشاكل لبنان الحقيقية بقيت حيث هي وكما هي، لأن الـ"هايد بارك" لا يعجز فقط عن مساءلة الحكومة على المواضيع التي ينتقيها، بل هو يبتعد عن طلب مناقشتها في المسائل الدقيقة التي تشكل خطرا على الجميع بدءا بدور الدولة وصولا إلى جاذبيتها.
وبهذا المعنى، جرى تجاوز موضوع في غاية الأهمية، وهو عجز الحكومة التي قدّمت قانون الموازنة عن الالتئام. عجز سببه محاولة استثمار حادث أمني أليم للانقضاض على "الحزب التقدمي الاشتراكي" الذي كشف "حزب الله" على لسان أمينه العام حسن نصرالله أن مواقف رئيسه وليد جنبلاط، سابقا وحاضرا، تزعجه.
التصدي لمحاولة الانقضاض هذه عطّل الحكومة، حتى بدا أن إعادة الحياة إليها منوط بتسليم رأس "حزب جنبلاط" لطالبيه.
وكلفة تجميد مجلس الوزراء مرتفعة، فهي تعطل الدولة والإجراءات الملحة التي عليها اتخاذها على أكثر من صعيد.
وبهذا المعنى أيضا، تمّ التعاطي بإهمال مع الأسباب التي تدفع دولا عدة، تتقدمها الولايات المتحدة الأميركية، الى إدراج، ليس الجناح السياسي لـ"حزب الله" ـ أحد أهم مكوّنات الحكومة ـ على لائحة الإرهاب فحسب بل عدد من النواب في كتلته أيضا.
ولهذا الإدراج أسباب "جرمية" لا بد من مناقشتها، تبيانا لصحتها أو لخطئها، على اعتبار أن لها ارتدادات خطرة للغاية على البلاد وعلى القطاع المصرفي وعلى مرفق المطار، وتاليا على تطلعات الموازنة الاستثمارية ومحاولة الإيحاء بجاذبية الدولة الائتمانية، في ظل أرقام مخيفة للبطالة وللإفلاس في القطاع الخاص.
ومن دون وجل أو خجل، وفي ظل "تطبّع" نيابي مع الشواذ، رفع وزير المال علي حسن خليل من وتيرة الفضيحة التي سبق وكشفها في وقت سابق، إذ أعلن، وبالفم الملآن، أن عدد المعابر غير الشرعية التي تعتمد لتهريب البضائع والأشخاص إلى لبنان ومنه، يبلغ 136 معبرا، وأن الأجهزة الأمنية على اختلافها هي التي وفّرت قائمة بها وبأسماء الأشخاص والجهات التي تستفيد منها. (راجع مقال الكاتب "لصوص لبنان").
وعلى الرغم من الخسائر الفادحة التي تلحقها هذه اللصوصية التهريبية بالخزينة العامة، فإن الغالبية الكاسحة في المجلس النيابي اللبناني مرّت عليها مرور الكرام، لأنها في قياس الربح والخسارة السياسي، إن طالبت بفتح هذا الملف على مصراعيه وتحويله إلى قضية وطنية، ستصطدم حتما بمكوّن بحجم "حزب الله".
وبما أن "الهايد باركيين" الذين أخذوا مجلس النواب اللبناني مقرّا لهم، هم طالبو نجومية وليسوا طالبي حلول، تنزلق الدولة في هاوية بات رجاء كثيرين أن يكون لها قاع.
اقرأ للكاتب أيضا: "لبننة" نص عقابي أميركي
ـــــــــــــــــــــ الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).