أدرك الإنسان أن اسمه يعني مفهوم هويته، ومنذ ذاك الحين، أحب هذا التمايز وصار يلعب باللغة، ويهب كل ما حوله من تنوعات طبيعية أسماء ـ هويات يختارها، إما لتكريم شخصية بشرية ذات شهرة وتأثير مثل بحر "إيجة"، أو اسما يدل على صفة ما، مثل البحر الميت والجبل الأقرع والنهر العاصي وصحراء الربع الخالي، دون أن يغفل عن تسمية كل ما بُني بفعل بشري من مدائن وعمارة وشوارع، التصقت أسماؤها بها مع مرور الزمن، وباتت نقاط تمييز وعلامات جغرافية تتداولها العامة لأجيال، كعناوين ثابتة رسخت في الذاكرة الجماعية رغم إزالة بعض من هذه المنشآت والمرافق قسريا، أو محيت بفعل الزمن.
في أسماء الشوارع أو بعض الصروح والمنشآت المعمارية الراسخة كدلالات وعناوين في ذاكرةهويات المدن، أي تغيير لهذه الأسماء أو بعض معالم هذه الأماكن أو المرافق، يعني العبث بهذه الهوية والاقتراب من الممنوع في الذاكرة الجمعية، تحتج لأجله شعوب حيّة تتعامل مع "الشارع" انطلاقا من مفهوم المواطنة، وتعتبره جزءا أصيلا من ديمقراطياتها، كما حدث سنة 2012 حين تظاهر الأتراك ضد حزب "العدالة والتنمية" الذي كان ينوي تغيير بعض معالم ساحة "تقسيم" الشهيرة في مدينة اسطنبول.
فيما تتقصد بعض الدول من وقت إلى آخر تغيير أسماء شوارعها أو مرافقها الشهيرة التي تحمل أسماء لشخصيات أو رموز سياسية أو تاريخية، تبعا لتبدلات سياسية مع دول أخرى، تهدف منها إلى مناكفة ما، أو استفزاز متعمد لأحد خصومها، لتنتهي هذه المناكفات، في معظم الأوقات بنشوء أزمات دبلوماسية فيما بينها.
الحكومة الإيرانية أشهر هواة هذه المناكفات، نكاية ببعض دول الخليج أو "بشيطانها الأكبر" أميركا، يليها الرئيس "أردوغان" الذي سرعان ما يرد الصاع صاعين فيما يعتبره يخص أحد رموز تركيا وقادتها التاريخيين المؤسسين، حيث أقدم سنة 2017 على تسمية الشارع الذي تقع فيه سفارة دولة الإمارات العربية المتحدة في أنقرة باسم جادة "حامي المدينة ـ شارع فخر الدين باشا" ردا على "تغريدة" اعتبرها مسيئة بحق الباشا من قبل وزير خارجية دولة الإمارات عبد الله بن زايد. وفي عام 2018 قررت حكومة أنقرة تغيير اسم الشارع الذي تقع فيه السفارة الأميركية إلى اسم "غصن الزيتون"، نكاية بواشنطن والأكراد "حلفاء واشنطن".
كما أدى تغيير اسم أكبر شوارع العاصمة الموريتانية إلى احتجاج مصري شعبي غير رسمي عام 2018 عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أعربوا فيه عن أسفهم لإزالة اسم الرئيس جمال عبد الناصر عن الشارع، واستبداله باسم شارع الوحدة الوطنية، ولمحوا بسخرية أن حكومة "نواكشوط" التي أزالت اسم رمز عربي، أبقت على شارع يحمل اسم الرئيس الفرنسي "شارل ديغول".
فيما عللت إحدى بلديات مدينة دمشق استبدال اسم الشارع الذي يحمل اسم "عبد العزيز آل سعود"، باسم "هوغو تشافيز"، بأنه استجابة لمطالبات شعبية وأهلية دمشقية، بسبب الدور الذي لعبته أسرة "آل سعود" وحكوماتها في الحرب، وصداقة الرئيس الفنزويلي وتضامنه مع الشعب السوري.
في واقع الأمر، تغيير اسم شارع أو مرفق حيوي ما، واستبداله باسم جديد آخر، إجراء، أيا تكن الأسباب التي دفعت إليه، يبقى إجراء شكليا لا ينجح كثيرا في مسعاه لمسح الاسم القديم المكرس في الذاكرة الجمعية، كأن يتم على سبيل الأمثلة المتخيلة تغيير اسم شارع "الحمراء" في بيروت إلى اسم شارع "الخضراء"، أو تغيير اسم شارع "الشانزليزيه" في باريس إلى اسم شارع السترات الصفراء، أو تغيير اسم شارع "برودواي" في نيويورك إلى شارع الرئيس "ترامب"، وستظل أسماء "الحمراء والشانزيليزيه وبرودواي" وكل أسماء الشوارع ومرافق المدن الشهيرة محفوظة بأمان كجزء من هويتها وروحها التي التصقت بها.
وحده، محرك البحث "غوغل" و"خرائط غوغل" ومن يعتمد عليها في تحركاته، هم من يصابون بالدوار كل حين، ويعانون الأمرين جراء هذا الإرباك والتغييرات المستمرة لأسماء الشوارع أو المرافق المعتمدة رسميا من قبل حكومات الدول، ولو جرب سائح ذي حظ عاثر يحمل خريطة "غوغل" أن يسأل أحدهم في دمشق مثلا، عن موقع ساحة "التجريدة المغربية"، قد ينقضي يومه قبل أن يكتشف إنها ساحة "السبع بحرات" التي يحفظ اسمها عشرات الأجيال المتعاقبة.
وربما تفاديا لهذا التيه في العناوين، أقدمت معظم مدن العالم الكبرى في تخطيطها المعماري منذ عقود، كما أقدمت معظم مدن العالم العربي قبل عقدين تقريبا، على منح أرقام للجزر السكنية الحديثة والأبنية والجادات والشوارع المتفرعة في المدن مرفقة بتسلسل الألفباء، وهو تخطيط حديث وعملي، وإن كان ميسرا وسلسا، إلا أنه يبقى بلا حيوية، تغيب عنه روح الأسماء وتتشابه الأماكن مثل عمليات الاستنساخ.
على مدى أكثر من خمسين عاما، كانت عائلتي تتلقى رسائل من الأقارب عبر البريد كتب عليها العنوان بجانب "بقالية أبو محمد ـ على يمين مكسرة الحطب"، ورغم أن الجادة التي تقطن بها العائلة باتت منظمة وتحمل عنوانا رسميا تم تعميمه على الأقارب، استمر مسنّو العائلة حتى اليوم بإرسال بطاقات الأعياد معنونة بـ"بقالية أبو محمد" الذي مات قبل أكثر من أربعين عاما، ولولا فطنة ساعي البريد ومعرفته بالعناوين القديمة ما كانت وصلت هذه البطاقات أبدا.
قد يكون أطرف ما يتعلق بالأسماء والعناوين وعلاقتها بالذاكرة الجمعية، ما جاء في صكّ بيع أرض عمره يقارب ثلاثة قرون ونصف، نشرته مجلة "الدفاتر" اللبنانية التي تعنى بالتراث والتوثيق، يصف فيه المالك مواصفات أرضه التي باعها لراهبات دير "طاميش" كالتالي ودون تعديل: "طولها ماسورة بماسورة أبو طنوس، يحدها شرقا التنور التي كانت تخبز عليه أم شلهوب، وغربا وكر الحية السودا التي عضّت بوشاهين عملول (عام أول)، وشمالا الطيونة المعششة فيها الدعويقة، وجنوبا مطرح اللي يقيّل عنزاتو بوالياس تحت الأربعة، وقبضنا الثمن ربعية زيت ورغيفين كار".
يقال إن لكل امرئ من اسمه نصيب، للأماكن وأسمائها أيضا الكثير من نصيبها، نحن حيواتها، وبدوننا تبقى أماكن يلهو بها الخواء.
اقرأ للكاتبة أيضا: البوصلة المفتقدة
ـــــــــــــــــــــ الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).