تظاهرة ضد الفساد في العراق
تظاهرة ضد الفساد في العراق

مشرق عباس/

منذ إعلان تيار "الحكمة" بقيادة عمار الحكيم "المعارضة السياسية" ضد الحكومة الحالية، وجد نفسه أمام سلسلة طويلة من الاتهامات، بعضها يتعلق بتاريخ التيار الذي كان قد شيد وجوده السياسي على فرضية كونه "صانع توافقات" إلى اعتراضات سياسية كالتي ساقها رئيس الوزراء عادل عبد المهدي الذي ينتمي إلى "المجلس الاسلامي الأعلى" قبل انشقاق الحكمة عنه.

ولا نريد التوقف كثيرا أمام ملاحظات عبد المهدي التي سربت في رسالة موجهة إلى الحكيم شخصيا، وحمل بعضها إشارات مقارنة تفتقر إلى الدقة المنهجية مثل الحديث عن "معارضة الدولة" و"معارضة الحكومة" أو المقارنة بين "المعارضة" ونظام "الثلث المعطل" وهو مصطلح إعلامي وليس سياسيا استخدم في لبنان، ولكن بعض تلك الملاحظات كان دقيقا، كالاعتراف بأن حكومته هي "حكومة تسوية" أخرجها إلى النور فشل إعلان "الكتلة الأكبر" التي كان عليها أن تنتج نظام الأكثرية والأقلية السياسيين.

النظام الأوليغارشي في العراق لم يعد يتسع للجميع كما كان عام 2014

​​مع ذلك كله، فإن خطوة تيار "الحكمة" تبدو في سياقها العام سليمة قانونيا وديمقراطيا، وهي في الضرورة نسق حقيقي لتقويم الدولة، في حال طبق وتم تبنيه برلمانيا على نطاق مبدئي من قبل تيار يمتلك الخبرة والبنى التأسيسية لذلك، ولم يستخدم كخطوة تكتيكية فقط.

ولهذا فإن على قيادات "الحكمة" الاستعداد لأسئلة الشارع المنطقية التي ستطرح بإلحاح ليس اليوم فقط، بل إنها أسئلة ستقترن خلال السنوات المقبلة بكل حراكهم السياسي، وأبرزها يتعلق بطبيعة المعارضة وحدود رؤية التيار لها، حيث لم تشر النقاط الخمس التي عرضتها تظاهرات أمس "الجمعة" بما يمكن أن يطلق عليه "منظومة معرفية للمعارضة"، وإنما كانت استنساخا ضبابيا لما تطرحه كل الأحزاب المشتركة في الحكومة والخارجة عنها منذ سنوات من شعارات انتخابية، في حين أن مقتضيات المعارضة في العراق ذات طابع تأسيسي أكثر منه شعاراتي.

إن تجربة العملية السياسية في العراق بعد 2003 إذا ما وضعت في مختبر الصيرورات واحتكمت إلى مبدأ أن "الديمقراطية تشفي نفسها" فإنها ستواجه بفشل ذريع، فالتجربة اختطفت المبادئ الديمقراطية، وحاصرت كل أمل بالتغيير، وشيدت على أنقاض الشعارات الزائفة، نظاما "أوليغارشيا" يجمع أطرافه "التورط في جريمة طمس معالم الديمقراطية" و"الخوف من ثقب أسود يمثله الجمهور العراقي الذي يزداد غضبا".

ويجب الاعتراف بأن هناك محاولات للتقدم، وأن هناك رغبة ما بالتغيير داخل بعض القوى السياسية العراقية، وأن النظام الأوليغارشي لم يعد يتسع للجميع كما كان عام 2014 بعد دخول لاعبين جدد في المعادلة السياسية وانتزاعهم نحو نصف مقاعد البرلمان في نسخة 2018 بطريقة وأخرى، ما يستدعي إبعاد لاعبين سابقين، بما يعني أن نمط الصراع السياسي الحزبي التقليدي للديمقراطية قد ولد بالفعل ولو على استحياء في نسخة 2018 لكنه ولد مبتورا، ما يمنعه من تطوير نسخ أكثر فاعلية.

خطوة تيار "الحكمة" تبدو في سياقها العام سليمة قانونيا وديمقراطيا

​​إن تمسك اللاعبين بقواعد اللعبة الحالية، واعتراف رئيس الحكومة بأنه جزء منها بل ومنقذ لها بطريقة وأخرى، يمثل منطلقا جديدا للمصارحة السياسية التي قد تجيب عن بعض أسباب الفشل السياسي. والمضي إلى مثل هذه المصارحات سيفرز تقدما بشكل ما في التعاطي مع مفهوم "الحكومة ـ المعارضة"، وهو حراك ديمقراطي أصيل وصحي يمكن أن يعالج على المدى الطويل أعراض التخلع السياسي العراقي، إذا لم تتم مواجهته باستدعاء "الطائفية السياسية" من جديد، التي بدورها ستستدعي "التوافق الإجباري" وتقود في المحصلة إلى الحفاظ على منظومة "التقاسم الحزبي للدولة" وهو ما يعترف به ضمنا رئيس الوزراء في رسالته.

وبعيدا عن التظاهرات الشعبية ومعطياتها، فإنه ليس أمام تيار "الحكمة"، بعد أن مضى بشكل معلن إلى المعارضة سوى إعلان أن أساس معارضته هو بنية نظام المحاصصة العراقي القائم على هذه المعطيات السابقة، ورفض الاشتراك فيه، والتآزر مع قوى المجتمع الحية التي تناضل منذ سنوات لتغييره، وإن التوقف عند هذا الهدف يتطلب أن يفعّل "الحكمة" أدواته السياسية والشعبية، في إنتاج الوعي الشعبي لتفريغ حكومات المحاصصة من مبرراتها، ابتداء من تغيير بنية الانتخابات العراقية التي فصلت لصالح استمرار هذا النظام، وليس انتهاء بقيادة حركة نقدية فاعلة لتوضيح الأضرار الناتجة عنه.

اقرأ للكاتب أيضا: محنة الرسائل الخطرة في العراق

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.