منذ إعلان تيار "الحكمة" بقيادة عمار الحكيم "المعارضة السياسية" ضد الحكومة الحالية، وجد نفسه أمام سلسلة طويلة من الاتهامات، بعضها يتعلق بتاريخ التيار الذي كان قد شيد وجوده السياسي على فرضية كونه "صانع توافقات" إلى اعتراضات سياسية كالتي ساقها رئيس الوزراء عادل عبد المهدي الذي ينتمي إلى "المجلس الاسلامي الأعلى" قبل انشقاق الحكمة عنه.
ولا نريد التوقف كثيرا أمام ملاحظات عبد المهدي التي سربت في رسالة موجهة إلى الحكيم شخصيا، وحمل بعضها إشارات مقارنة تفتقر إلى الدقة المنهجية مثل الحديث عن "معارضة الدولة" و"معارضة الحكومة" أو المقارنة بين "المعارضة" ونظام "الثلث المعطل" وهو مصطلح إعلامي وليس سياسيا استخدم في لبنان، ولكن بعض تلك الملاحظات كان دقيقا، كالاعتراف بأن حكومته هي "حكومة تسوية" أخرجها إلى النور فشل إعلان "الكتلة الأكبر" التي كان عليها أن تنتج نظام الأكثرية والأقلية السياسيين.
مع ذلك كله، فإن خطوة تيار "الحكمة" تبدو في سياقها العام سليمة قانونيا وديمقراطيا، وهي في الضرورة نسق حقيقي لتقويم الدولة، في حال طبق وتم تبنيه برلمانيا على نطاق مبدئي من قبل تيار يمتلك الخبرة والبنى التأسيسية لذلك، ولم يستخدم كخطوة تكتيكية فقط.
ولهذا فإن على قيادات "الحكمة" الاستعداد لأسئلة الشارع المنطقية التي ستطرح بإلحاح ليس اليوم فقط، بل إنها أسئلة ستقترن خلال السنوات المقبلة بكل حراكهم السياسي، وأبرزها يتعلق بطبيعة المعارضة وحدود رؤية التيار لها، حيث لم تشر النقاط الخمس التي عرضتها تظاهرات أمس "الجمعة" بما يمكن أن يطلق عليه "منظومة معرفية للمعارضة"، وإنما كانت استنساخا ضبابيا لما تطرحه كل الأحزاب المشتركة في الحكومة والخارجة عنها منذ سنوات من شعارات انتخابية، في حين أن مقتضيات المعارضة في العراق ذات طابع تأسيسي أكثر منه شعاراتي.
إن تجربة العملية السياسية في العراق بعد 2003 إذا ما وضعت في مختبر الصيرورات واحتكمت إلى مبدأ أن "الديمقراطية تشفي نفسها" فإنها ستواجه بفشل ذريع، فالتجربة اختطفت المبادئ الديمقراطية، وحاصرت كل أمل بالتغيير، وشيدت على أنقاض الشعارات الزائفة، نظاما "أوليغارشيا" يجمع أطرافه "التورط في جريمة طمس معالم الديمقراطية" و"الخوف من ثقب أسود يمثله الجمهور العراقي الذي يزداد غضبا".
ويجب الاعتراف بأن هناك محاولات للتقدم، وأن هناك رغبة ما بالتغيير داخل بعض القوى السياسية العراقية، وأن النظام الأوليغارشي لم يعد يتسع للجميع كما كان عام 2014 بعد دخول لاعبين جدد في المعادلة السياسية وانتزاعهم نحو نصف مقاعد البرلمان في نسخة 2018 بطريقة وأخرى، ما يستدعي إبعاد لاعبين سابقين، بما يعني أن نمط الصراع السياسي الحزبي التقليدي للديمقراطية قد ولد بالفعل ولو على استحياء في نسخة 2018 لكنه ولد مبتورا، ما يمنعه من تطوير نسخ أكثر فاعلية.
إن تمسك اللاعبين بقواعد اللعبة الحالية، واعتراف رئيس الحكومة بأنه جزء منها بل ومنقذ لها بطريقة وأخرى، يمثل منطلقا جديدا للمصارحة السياسية التي قد تجيب عن بعض أسباب الفشل السياسي. والمضي إلى مثل هذه المصارحات سيفرز تقدما بشكل ما في التعاطي مع مفهوم "الحكومة ـ المعارضة"، وهو حراك ديمقراطي أصيل وصحي يمكن أن يعالج على المدى الطويل أعراض التخلع السياسي العراقي، إذا لم تتم مواجهته باستدعاء "الطائفية السياسية" من جديد، التي بدورها ستستدعي "التوافق الإجباري" وتقود في المحصلة إلى الحفاظ على منظومة "التقاسم الحزبي للدولة" وهو ما يعترف به ضمنا رئيس الوزراء في رسالته.
وبعيدا عن التظاهرات الشعبية ومعطياتها، فإنه ليس أمام تيار "الحكمة"، بعد أن مضى بشكل معلن إلى المعارضة سوى إعلان أن أساس معارضته هو بنية نظام المحاصصة العراقي القائم على هذه المعطيات السابقة، ورفض الاشتراك فيه، والتآزر مع قوى المجتمع الحية التي تناضل منذ سنوات لتغييره، وإن التوقف عند هذا الهدف يتطلب أن يفعّل "الحكمة" أدواته السياسية والشعبية، في إنتاج الوعي الشعبي لتفريغ حكومات المحاصصة من مبرراتها، ابتداء من تغيير بنية الانتخابات العراقية التي فصلت لصالح استمرار هذا النظام، وليس انتهاء بقيادة حركة نقدية فاعلة لتوضيح الأضرار الناتجة عنه.
اقرأ للكاتب أيضا: محنة الرسائل الخطرة في العراق
ـــــــــــــــــــــ الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).