تظاهرة أمام مقر المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان، للمطالبة بقانون مدني للأحوال الشخصية
تظاهرة أمام مقر المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان، للمطالبة بقانون مدني للأحوال الشخصية

مصطفى فحص/

فجّر نائب حزب الله السابق نواف الموسوي جدلا مُحرجا للجماعة الحزبية التي ينتمي لها روحيا وفكريا، ما أدى إلى فرض الاستقالة عليه من الندوة البرلمانية، كما لم يعد مستبعدا أن تتخذ قيادة الحزب إجراءات تنظيمية بحقه. 

فنواف الأب، لجأ إلى عمل طائش وفقا للمعايير القانونية باقتحامه لمركز شرطة دفاعا عن ابنته بوجه طليقها الذي ربح قضية حضانة ابنته نتيجة حكم صادر عن المحكمة الشرعية الجعفرية. 

مما لا شك فيه أن السيد الموسوي أحرج بفعلته حزب الله أمام الرأي العام اللبناني، الذي انقسم بين مؤيد لنواف الأب بالرغم من استخدامه كل ما يملك من قوة ونفوذ من أجل حماية ابنته من جور المحاكم الشرعية الجعفرية المنحازة دون أدنى مبرر أخلاقي أو إنساني لصالح الرجل في أحكامها، أو معترض لأسباب سياسية حيث استغلت الحادثة للتصويب على حزب الله باعتبار أن ما فعله نواف الموسوي يثبت أن حزب الله حالة سياسية وعسكرية تعتبر نفسها فوق المساءلة وغير معنية في مراعاة أو مداراة حرمة الدولة ومؤسساتها أو احترام القانون. 

رأى مغنية إلى أنه على القاضي أن يأخذ في اعتباراته مصلحة الطفل قبل إصدار حكمه

​​لكن الحرج الأكبر الذي شكله نواف الموسوي كان داخل بيئته العقائدية والسياسية بإعلانه التمرد على قوانين الأحوال الشخصية التي تستنبط أحكامها من الفقه الجعفري، الأمر الذي يصعب على هذه الجماعة الدينية الراديكالية تقبله، وهي ترفض حتى فكرة النقاش في مضمون الأحكام الشرعية أو إعادة النظر في بعضها بما لا يخالف العقيدة ولكن يتناسب مع روح العصر.

فلا يُستبعد أن الموسوي قد واجه خصوما شرسين تمكنوا منه من زاوية حماية العقيدة والفقه الجعفري والدفاع عنها باعتبارها نص مقدسا لا يسمح المساس بأحكامه. إذ تسبب تصرفه بتشجيع الأصوات المعترضة على الأحكام التي تصدرها المحكمة الشرعية الجعفرية والتي في أغلبها مجحفة بحق الأمهات في ما يخص حضانة الأطفال. وهذا أمر لا يتناسب مع التيار الأصولي داخل حزب الله وداخل البيئة الشيعية، كما أنه يعتبر طعنة لدور المؤسسة الدينية الرسمية التي تسيطر عليها الثنائية السياسية الشيعية والتي يتم من خلالها تعيين القضاة الشرعيين، وتعتمد في اختياراتها على المعايير السياسية والولائية قبل المعايير العلمية. 

إذ تتبع المحكمة الشرعية الجعفرية إلى رئاسة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الذي يُوكل إليه شكليا اختيار القضاة عبر امتحانات يقول المطلعون على شروطها إنها تعتمد فقط على كرّاس لا يتجاوز الصفحات العشر، يتضمن قوانين الأحوال الشخصية المعتمدة لدى الطائفة الشيعية فقط، إضافة إلى أسئلة فقهيه أخرى.

والجدير ذكره أن رجل الدين الشيعي علي حب الله الذي قام بدراسة هذا الكرّاس وألف كتابا حول أحكامه استغرق العمل عليه قرابة سنة كاملة، لم يحالفه النجاح في مباراة القضاة التي أجراها المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى منذ سنوات لأسباب سياسية وليست علمية، نتيجة التدخلات الحزبية في اختيار القضاة الشرعيين.

قلة التحصيل العلمي عند بعض قضاة الشرع وجهلهم بالقوانين المدنية والشرعية ومعرفة استنباط الأحكام، تشوه سمعة المحكمة الشرعية الجعفرية، بحيث تذهب "سمعة الصالح بما يفعله الطالح"، وذلك بسبب مئات الشكاوى على الأحكام التي يطلقها بعض القضاة المشكوك بعدالتها ونزاهتهم خصوصا في أمور الحضانة.

نواف الموسوي خلال مؤتمر صحافي في مجلس النواب (علي فواز)

​​بات الفقه الجعفري يُنعت بالذكورية بسبب أحكام بعض القضاة الذين يغطون قلة معرفتهم العلمية باللجوء إلى أحكام راديكالية تحت حجة التمسك بالنصوص بالرغم من أنها تخضع للتأويل بسبب تعدد الاجتهادات فيها، وهذا ما أقرّ به الفقيه الشيعي اللبناني المُجدد الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه "فقه الإمام جعفر الصادق" إذ رأى مغنية أن كل الأحاديث المروية عن الرسول وعن الأئمة لم تحدد عمرا موحدا لسن الحضانة، مع العلم أن جميعها أحاديث مسندة، لذلك رأى مغنية إلى أنه على القاضي أن يأخذ في اعتباراته مصلحة الطفل قبل إصدار حكمه، وهو ما يمكن اعتباره خطوة ثورية من الشيخ مغنية في أنسنة الأحكام الشرعية.

بات الفقه الجعفري يُنعت بالذكورية بسبب أحكام بعض القضاة

​​عودة على بدء، إلى نواف الموسوي الذي لا يمكن لأحد من خارج بيئته السياسية أن يتقبل أو يتحمل خطابه السياسي الاستعلائي الذي تجاوز في بعض الأحيان اللياقات السياسية، وهو ما استخدمه الحزب ذريعة لإدانته وثم إلى إقالته نتيجة تصرفه لحماية ابنته، لكنه من دون شك أكثر دراية ومعرفة بالفقه ومدارسه وتاريخ التشيع من بعض القضاة الذين حكموا ضد ابنته وضد أغلب النساء الذين أجبرن على الاحتكام إلى القضاء الشرعي الجعفري، وعلى هذا علق الكاتب اللبناني وسام سعادة على حسابه في فيسبوك بالقول: "عام 2007 اتصل بي السيد نواف الموسوي ودعاني لجلسة مطولة تحادثنا فيها لساعات طويلة عن هنري كوربان وحيدر آملي والمير داماد والملا صدرا والفلسفة واللاهوت والتصوف وعلوم الباطن والعرفان.. دعك من كل الاختلاف العقائدي والسياسي، لا أظن بأنّ نائبا آخر في البرلمان الحالي بإمكانه أن يفك حرفا واحدا في كل هذا سواه. صحيح في المقابل أن نواف "لم يرنا" شيئا من هذا في ممارسته السياسية، البرلمانية والإكسترا برلمانية".

وعليه، لا أستبعد أن يكون نواف الموسوي المثقف والمرن قبل السلطة قد قرأ رواية شاعر روسيا العظيم بوشكين "ابنة الضابط "وتأثره بصراع "غرينيوف وبوغاتشيف" وما حوته الرواية من مغامرات طائشة مفعمة بالإنسانية تشبه مغامرته في مركز الشرطة في الدامور دفاعا عن ابنته، ولا أدري كيف ستكون ردة فعله لو جلس مكان سيدة فنت عمرها في تربية أبنائها وهي تستمع لقاض شرعي يمسك في يديه سيجارا كوبيا فاخرا.

اقرأ للكاتب أيضا: عراق الآخر والمتنوع... ممكن!

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.