التقيت ذات مرة أثناء مأدبة عشاء في إحدى الجامعات التي دعيت لإلقاء محاضرة أدبية فيها ببروفسور ينحدر من أصول لاتينية من أميركا الوسطى. جرى ذلك بعد هبوب رياح "الربيع العربي" بسنوات قليلة. قال لي البروفسور باستغراب: "أنا لا أفهم كيف يتردد عندكم في البلدان العربية كافة ما تردد عندنا بالضبط في بلدان أميركا اللاتينية قبل عشرات السنين من المصطلحات نفسها عن /مؤامرة خارجية/ و/مندسين أجانب/ و/عملاء خونة/!" لم أدر بماذا أجيبه، فالتزمت الصمت تماما وغيرت مجرى الحديث، لكن الأرق أصابني تلك الليلة وأنا أستعيد كلامه مرة تلو الأخرى.
عرفت فيما مضى ممثلة مسرحية كانت تتمتع بخبرة واسعة وحضور قوي، لكنها كانت تمتلك خصلة سيئة وحيدة تكمن في تحميل ذنب أخطائها للآخرين. بالتأكيد، ليس المسرح في البلدان النامية مثاليا من حيث ظروف العمل، بل يشبه العمل فيه الحفر على الصخر بالأظافر، ويقتضي من الفنانين تحمل الصعوبات وتقديم التضحيات بجلدٍ بطولي مقابل ربح مادي زهيد.
معظم فنانينا الكبار، سنا وقدرا، تعلموا عبر الممارسة والتجربة العملية، من خلال ملاحظتهم لهفواتهم والقيام بتصحيحها في المرات القادمة. عندما كانت تلك الممثلة المخضرمة أحيانا تتعثر في الأداء، كأن تبالغ في التعبير لدرجة التصنع، أو تفقد صدق الإحساس بسبب تكرار المشهد، أو تتلعثم في النطق بالحوار، أو تنسى الحركة التي رسمها لها المخرج، كانت تسارع لإلقاء اللوم على مصمم الإضاءة الذي لم يحسن توجيه بروجكتور معين، أو على مصممة الأزياء التي لم تفصل لها ثوبا مريحا، أو على مهندس الديكور والإكسسوار الذي لم يراع احتياجاتها، أو على فنانة المكياج وتصفيف الشعر، أو على ممثل زميل لها لم يتجاوب مع أدائها، أو على سوء الرؤيا الإخراجية.. إلى آخره من أعذار تهدف جميعا إلى إلقاء اللوم على أي عنصر آخر سواها.
مثال تلك الممثلة، وبالأحرى نموذج الممثلين المشابهين لها في الطبع، يمكن تعميمه ليشمل مختلف أمور الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. لاحظت الطبع نفسه يتكرر في مختلف المجالات لدى الوقوع في خطأ، سواء في القرارات الإدارية أم في المناورات الحربية أم في الشؤون السياسية أم في المخططات الاقتصادية.
الشائع في بلادنا العربية عموما أن ينصب الجهد ـ بدلا من إصلاح الخطأ بوعي وإحساس بالمسؤولية ـ على تبرير الوقوع في الخطأ بإسقاط الذنب على الآخرين، أو على عوامل خارجية أدت إلى وقوعه، وفي طليعتها "المؤامرة".
منذ أن بدأ وعينا بالتفتح، كلما "دق الكوز بالجرة"، تردد عبر أجهزة الإعلام: "إنها مؤامرة خارجية". سمعنا هذا المصطلح يتردد عبر الإذاعات والتلفزة، في الخطابات على المنابر، وعلى ألسنة عامة الناس في الشارع. بدأ الحديث عن نظرية المؤامرة يشيع منذ تجربة الوحدة السورية ـ المصرية، التي أجهضت قبل النضج. لا أحد ينكر، بالطبع، أن تلك الوحدة أحيطت بمؤامرات، وليس بمؤامرة واحدة، ومن قبل عدة أطراف دولية، وليس من قبل طرف واحد.
لكن السبب الأهم وراء انتكاسة الوحدة لم يكن نتيجة المؤامرات الخارجية في المقام الأول. بدأ التململ يزداد من الأخطاء الداخلية التي شابت الوحدة. لم تكن بعض إجراءات التأميم والإصلاح الزراعي في محلها بالنسبة لسوريا، وكذلك بعض القرارات المتجاهلة لطبيعة الفوارق الاقتصادية والاجتماعية بين البلدين الشقيقين. أخيرا وليس آخرا، أضيفت مصيبة استبداد القبضة الأمنية، التي لم يألفها المواطنون السوريون من قبل، والتي اتسمت بالزج بأي معارض في أقبية السجون دون محاكمة، وتعريضه للتعذيب والمهانة، بل القتل المتعمد أحيانا.
للأسف الشديد، أدت كل تلك الأخطاء إلى انهيار أسرع من المتوقع والمأمول للوحدة، وإن ظلت جماهير "الإقليم الشمالي" تحن بشدة إلى إبداعات "الإقليم الجنوبي" وتتحمس لإنجازاته، وظل أبناء "الإقليم الجنوبي" يخصون أشقاءهم من مبدعي "الإقليم الشمالي" بمعاملة خاصة وتكريم مميز كلما وطأت أقدامهم أرض الكنانة.
قابلت خلال حياتي المهنية عددا لا يستهان به من المسؤولين الواعين للأخطاء، والمنادين بوجوب انتهاج سبل إصلاح جادة للتخلص منها، بحيث يجعلون المواطنين يشعرون بالمساواة في الحقوق والواجبات. دأب هؤلاء على أن يجأروا بالشكوى ـ ولو همسا في جلسات مقفلة ـ من البيروقراطية السائدة، من المحسوبيات والشللية، من الرشوة والتعسف الأمني والقوانين البالية، وجميعها يحتاج إلى إصلاح بالممارسة وليس بإطلاق الشعارات والوعود وحسب.
عشنا هذه الأحلام الوردية في انتقاد بعض المسؤولين لواقع ينشدون إصلاحه منذ كان مجرد سماع المرء لجرأة انتقاد يجمد الدم في عروقه، فيتلفت حوله خائفا من اقتحام عناصر مسلحين قاعة ندوة المجتمع المدني ليقتادونه إلى مكان لا يرى الشمس. كان المرء كثيرا ما يتلمس أسفل المائدة ليتأكد من عدم وجود ميكروفون يسجل كلامه كي يضاف إلى الأرشيف المخبأ للحظة المحاسبة، أو يتأمل ساعة الحائط محاولا التأكد أنه لا توجد كاميرا خفية للمراقبة مخبأة فيها.
في الواقع، كان بعض أولئك المسؤولين يتكلم بصدق إخلاص آنيين، رغم الولاء للنظام الذي يمثلونه، فينادون بضرورة التغيير والإصلاح طالما أنهم يتوقون إلى ازدهار الوطن وأمانه واستقراره. الغريب، أن بعض هؤلاء كان ينسى أو يتناسى أن الإصلاح المنشود الذي يجاهر به همسا يجب أن يبدأ منه شخصيا ومن أهل بيته، سواء في السلوك العام أو في تجنب الحصول على امتيازات نتيجة المنصب.
بالتالي، لدى أول بادرة احتجاج جماهيري أو حتى إعلامي في صحافة الخارج العربية أو العالمية، كان المسؤولون المنتقدون أنفسهم ينقلبون إلى منكرين لمشروعية الانتقادات وأحقية المطالب التي كانوا هم أنفسهم يرددونها، مبررين الأخطاء التي كانوا يدينونها بالكلام لإرضاء سامعيهم، مفسرين النشاط السلمي على أنه مؤامرة خارجية مخطط لها بدهاء من قبل أطراف خارجية معادية للوطن قامت بتجنيد مرتزقة من الداخل ورشتهم للتنازل عن القيم الوطنية النبيلة والقيام بتخريب مشبوه الأغراض.
في الواقع، نظرية المؤامرة مستمرة منذ تفتح وعينا على هذه الدنيا، إذ ليس هناك أسهل من أن تعزا المصائب جميعا إلى عامل خارجي، فلا يُشخَّص الداء، ولا يعالج بالدواء.
انصرم القرن العشرون، تغيرت أمور كثيرة في العالم، لكن الاعتقاد بأن المؤامرة مستمرة لم يتغير. ازداد وقع المصطلح وتضاعف انتشاره مع تطور تقنية الاتصالات عبر الشبكة العنكبوتية والفضائيات التلفزيونية المتنامية كالفطر، مما جعل العالم أشبه بقرية صغيرة.
بالتالي، كلما نشبت أزمة في بقعة معينة من العالم، من أوكرانيا وفنزويلا إلى الجزائر والسودان، ترددت أصوات كالصدى تعزو أسبابها إلى مؤامرة خارجية، وتتجاهل المسببات الداخلية التي أدت إلى نشوئها. بالتالي، فإن تلك الأصوات التي تعزو كل شيء إلى مؤامرة لا تجد المبرر للقيام بإصلاح ملموس يتجاوز سقف التطلعات الشعبية ويحقق "ثورة داخل الثورة". لماذا؟ لأن نظرة الأنظمة والأحزاب إلى الشعوب تتوهم أنها قطعان خراف لا تقوى على التمرد، حتى ولو تعرضت إلى لجوع والعطش، بل حتى لو عوقبت على ثغاء الاحتجاج بالسوق إلى المسالخ.
لا أنكر إطلاقا صحة وجود المؤامرة الخارجية أحيانا. دول العالم القوية تتآمر على بعضها، ويتنافس على النفوذ وتقاسم ثروات العالم، على إنشاء الأحلاف وتنفيذ الأجندات التي تخدم مصلحة هذا أو ذاك دون مصالح الشعوب ـ الضحية. لكن ما يُنجح تلك المؤامرات هو ضعف جهاز المناعة في بلد من البلدان، وليس حنكة المتآمرين.
لا تنجح المؤامرة الخارجية عندما يكون البنيان متينا وسليما. تنجح المؤامرات بعد أن يضعف الجسم ويستشري الإرهاق فيه. تنجح المؤامرة عندما نتجاهل مسببات المرض، ونعزو أعراضه إلى عوامل خارجية، وليس لخطأ في أدائنا، تماما كما دأبت الممثلة المخضرمة أن تفعل.
أخيرا، إذا سلمنا جدلا بصحة وجود نظرية المؤامرة، ألا يحق لنا التساؤل: "متى يحين الأوان كي نبدأ بالتآمر على غيرنا؟ ولماذا تقتصر مؤامراتنا على مواطني بلدنا وربما بلداننا العربية الشقيقة، في حين تعرض مؤامراتنا عن سواهم ممن عرف تاريخيا أنهم لا يضمرون لنا خيرا؟".