أزمة الخليج والمضيق، لم تبلغ ذروتها بعد، فالأطراف ماضية في استعراض القوة (واستخدامها على نحو مضبوط)، وعمليات "عض الأصابع" لم تصل إلى خواتيمها بعد، إذ تتوالى الأيام محمّلة بأخطر التطورات، ليس على مستوى "حرب الكلمات" بين الطرفين فحسب، بل وعلى مستوى "حرب الناقلات" و"الطائرات المسيّرة" و"حرب المطارات" على الجبهة اليمنية ـ السعودية، بعيدا عن الخليج وقريبا منه.
تمضي واشنطن حتى "نهاية الشوط" في ممارسة أقصى الضغوط على إيران، وتُظهر كل ما بحوزتها من أدوات وأوراق لإرغام إيران على الجلوس إلى مائدة المفاوضات التي دعت لالتئامها من دون شروط مسبقة، وفي أسرع وقت ممكن...
في المقابل، لا تدخر إيران وسيلة، "خشنة" كانت أم "ناعمة"، لإيصال الأزمة الخليجية إلى حافة الهاوية، مراهنة على "خشية" إدارة ترامب من الانزلاق في أتون حرب جديدة، لا تريدها، وعلى أمل أن يفضي التصعيد الميداني، إلى تكثيف الضغوط الدولية الرامية إيجاد "حل متوازن" لأزمة العقوبات الخانقة التي تعتصرها و"تطحن" اقتصادها.
تواصل واشنطن حشد قواتها وقطعها البحرية (آخرها إرسال 500 جندي إلى قاعدة الأمير سلطان قرب الرياض). ومسلسل العقوبات الذي يحاصر أفرادا ومؤسسات إيرانية، لا يكاد يتوقف لحظة واحدة، فيما الجهد الدبلوماسي الأميركي يتجه لـ"تدويل" أمن الملاحة البحرية في الخليج والمضيق، حيث من المنتظر أن يلتئم قريبا، ممثلون لخمسة وستين دولة في المنامة، للبحث في هذا الموضوع...
دول أخرى، تواصل حشد قطعها البحرية في الخليج (بريطانيا والهند وغيرهما) ودائما تحت شعار "حماية أمن ناقلاتها وسفنها التجارية"... هذا الاحتشاد الكثيف للقطع الحربية البحرية، يجعل من هذه الرقعة الضيقة، برميل بارود قابل للانفجار في أية لحظة، وعند أول شرارة، بالرغم من حرص مختلف الأطراف على تجنب الحرب وتفادي تداعياتها الخطرة.
في المقابل، تواصل إيران سياسة "التحرش المحسوب" بالولايات المتحدة، عبر استهداف حلفائها في المنطقة... من حرب الناقلات وحوادثها "الغامضة"، إلى "حرب الطائرات المسيّرة"، إلى "حرب المطارات" جنوب المملكة العربية السعودية... ثمة مسعى إيراني لا تخطئه العين، لإرسال رسالة مفادها: لا بديل عن وقف الانزلاق نحو أتون حرب شاملة، سوى برفع العقوبات أو تخفيضها... لا بديل عن "خيار شمشون"، سوى بالسماح لإيران باستئناف تصدير نفطها والاتجار مع العالم.
"صراع الإرادات" بين واشنطن وطهران يبلغ ذروة غير مسبوقة، وثمة سباق محموم بين ضغوط واشنطن الاقتصادية وعقوباتها القاسية من جهة، وعمليات التعرض والتحرش الإيرانية "الخشنة" من جهة ثانية... وهذا وضع لن يكون محتملا على المدى الطويل، وهو إن لم ينته إلى "تسوية ما"، فقد يقود إلى مواجهة لا يرغب بها أحد، وقد تُرتب من التداعيات ما لا قبل لهذا الإقليم الهش على احتماله.
توطئة لحرب أم تهيئة للسلام؟
من منظور أميركي، تتلخص أهداف سياسة "الخنق الاقتصادي" ودبلوماسية البوارج والأساطيل، بـ"جلب" إيران إلى مائدة مفاوضات من دون شروط مسبقة. واشنطن ذاتها، وعلى لسان وزير خارجيتها، سبق وأن طرحت شروطا "مُذلة" على إيران، ظاهرها "تغيير سلوك النظام"، وباطنها "تغيير النظام" نفسه... واشنطن لم تعد تتحدث عن أي من شروطها المسبقة، وهذا تطور يفتح الباب رحبا أمام الوسطاء ومساعيهم الحميدة.
ومن منظور إيراني، تتخلص أهداف "التصعيد الخشن"، بإرغام واشنطن على رفع أو تخفيف العقوبات المفروضة عليها، وتحسين شروط التفاوض وضمان الوصول إلى اتفاق لا يختلف نوعيا عن اتفاق فيينا... روحاني لخص المسألة برمتها حين عرض لشرطين اثنين لاستئناف التفاوض مع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب: رفع العقوبات والعودة لاتفاق فيينا النووي.
ومثلما كان مستحيلا على إيران أن تقبل شروط مايك بومبيو، فإنه من المستحيل على إدارة ترامب كذلك أن تقبل بشرطي روحاني، "المُذلين" كذلك... فمثلما كان قبول إيران بشروط بومبيو لا يعني شيئا آخر سوى رفع الراية البيضاء أمام واشنطن، والمقامرة بإضعاف النظام توطئة لسقوطه آو إسقاطه... فإن قبول البيت الأبيض بشرطي روحاني، لا يعني شيئا آخر سوى رفع "الراية البيضاء" أما طهران، والمقامرة بهزيمة هذه الإدارة أمام إيران، والأهم، أمام ناخبيها وأمام الحزب الديمقراطي ومرشحيه في الانتخابات المقبلة...
الشروط المتبادلة بين الجانبين، لا تصلح مدخلا للتفاوض، وكلاهما يدرك هذه الحقيقة تمام الإدراك، وكلاهما يرفع سقف مطالبه بهدف تحسين شروط التفاوض ابتداء، و"تجويد" الاتفاق المنتظر عند الوصول إليه.
تنشيط الوسطاء والوساطات
وفقا لمصادر عدة، مطلعة على تطورات الأزمة الخليجية المتفاقمة، فإن مفاوضات جادة وجدية، تدور حاليا بين واشنطن وطهران، من خلال "طرف ثالث"... ومن بين جميع الوسطاء والوساطات الفاعلة اليوم، تبدو الوساطة الفرنسية أكثرها جدية وأوفرها حظا في التقدم والنجاح... لا سيما وأن الوسيط الفرنسي اعتمد مقاربة "الرزمة الشاملة، المتوازنة والمتزامنة"، والتي تبدأ بإجراءات بناء الثقة، والتراجع خطوة واحدة، عن "حافة الهاوية"، كأن تخفف واشنطن الحظر المفروض على صادرات النفط الإيرانية والعودة إلى سياسة "الإعفاءات" للدول المستوردة، كليا أو جزئيا، نظير قيام إيران في المقابل، بالتراجع عن "خروقاتها" الأخيرة لالتزاماتها بموجب الاتفاق النووي: زيادة كمية اليورانيوم المخصب عن 300 كيلوغرام، والتخصيب بدرجة 4.7 بالمئة.
ووفقا لما رصده المراقبون لتطورات الموقفين الأميركي والإيراني حيال الأزمة، فقد لوحظ أن إدارة ترامب باتت تركز كل جهودها على هدف منع إيران من امتلاك قنبلة نووية، وتراجعت إلى الخلف، نسبيا على الأقل، مطالباتها (شروطها السابقة) المتصلة ببرنامج إيران الصاروخي أو دورها الإقليمي "المُزعزع للأمن والاستقرار"...
في المقابل، رصد المراقبون بعض مظاهر "دبلوماسية زلات اللسان" التي يعتمدها الوزير محمد جواد ظريف، فهو يلمح من جهة إلى معادلة "ضبط البرنامج الصاروخي الإيراني مقابل ضبط صادرات السلاح لدول خليجية"، قبل أن يعود دبلوماسيون إيرانيون آخرون لنفي ما ورد على لسانه، لكأننا أمام "بالونات اختبار" يجري إطلاقها، من ضمن لعبة "تبادل للأدوار" بين مسؤولين إيرانيين، وهي لعبة أتقنتها الدبلوماسية الإيرانية ولجأت إليها في أزمات عديدة سابقة.
والحقيقة أن هوامش المناورة أمام طهران تزداد ضيقا ومحدودية، ليس بفعل العقوبات المشددة المفروضة عليها فحسب، بل بسبب إخفاق مساعيها في دفع دول الاتحاد الأوروبي لإنجاز "آلية" جديدة للتبادل التجاري معها، تعوضها بعضا من خسائرها الناجمة عن العقوبات الأميركية. وإذا ما نجحت مساعي واشنطن في "تدويل" أمن الملاحة في الخليج والمضيق، فإن إيران ستكون فقدت ورقة مهمة، لطالما لوّحت باستخدامها عند الحاجة.
عامل الوقت، وإن لم يعد "يلعب" لصالح إيران، المعروفة بنفس دبلوماسيتها الطويل و"صبرها الاستراتيجي"، إلا أن طهران ما زالت تسعى جهدها لإطالة أمد لعبة "عض الأصابع"، أقله لاستطلاع فرص إعادة انتخاب الرئيس ترامب لولاية ثانية... فإن تأكد لها أن حظوظه في العودة للبيت الأبيض في تناقص، ستظل تماطل الوسطاء وتعطل الوساطات... وإن هي تأكد لها أنه عائد لولاية ثانية، فلن يكون أمامها من خيار سوى الجلوس على مائدة مفاوضات، وصولا لاتفاق جديد، لن نعرف من الآن، ما الذي سيكون عليه، وبم سيتفق أو سيختلف عن اتفاق فيينا، أو "اتفاق أوباما".
لكن عامل الوقت، لا يعمل كذلك لصالح إدارة ترامب، فكلما اقترب الاستحقاق الانتخابي كلما وجد الرئيس نفسه مقيدا بقواعد الحملة الانتخابية ومقتضياتها... وكلما اقترب الاستحقاق، كلما اتسعت فجوة الخلاف والانقسام في مؤسسات صنع القرار وبين الحزبين الرئيسين، وربما هذا ما يفسر "الاستعجال" الأميركي في جلب إيران للتفاوض، وكذا المماطلة الإيرانية في الاستجابة للضغوط الأميركية.
وعامل الوقت لا يعمل كذلك لصالح الأطراف الإقليمية والدولية المرتبطة مصالحها وأمن طاقتها بأمن الخليج وحرية الملاحة، فهذه الأطراف تحبس أنفاسها على وقع الأحداث الخطرة والمتلاحقة، وتبدو أنظارها متعلقة بجهود الوسطاء ومساعي الوساطة... عامل الوقت يعمل لصالح جهود إطفاء حدة التوتر، ويعطي الوساطات والوسطاء، زخما لم يتوفر لهم من قبل.
اقرأ للكاتب أيضا: الإمارات بين "إرث زايد" و"نموذج اسبارطة"
ـــــــــــــــــــــ الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).