نام السوريون من مؤيدي الثورة السورية على بحر من الخطابات والاستراتيجيات والتوجهات السياسية التمجيدية التي كانت ترعاها وتُشيدها حركة الإخوان المسلمين السورية تجاه الدور التركي في مسألة هؤلاء السوريين، خصوصا في رعايتها لملايين اللاجئين منهم على أراضيها.
فأساطير من مثل "الحكاية الحديثة للمُهاجرين والأنصار"، ومروية "أسد السُنة"، ومعادلة الحليف الوحيد للشعب المغدور، سعى الإخوان السوريون لأن يراكموها لسنوات، ويحولوها قدر المُستطاع إلى وحدة قياس في أذهان هؤلاء السوريين.
قبل أيام قليلة معدودة، استفاق نفس هؤلاء السوريون على ما هو عكس ذلك تمام.
صاروا يشاهدون رموزا للإخوان السوريين وهم يؤيدون ويفسرون ويحللون ويشرعنون الاستراتيجية الحكومية التركية الجديدة تجاه هؤلاء المُستضعفين السوريين؛ الحكومة التركية التي صارت تتبنى خطابا وطنيا شعبويا تجاه النازحين السوريين، شبيها بخطابات اليمين الأوربي، وسلوكيات عقابية شبيهة بما تمارسه المؤسسات الأمنية اللبنانية تجاه اللاجئين السوريين.
ثمة ما هو "أدونيسي" في تفاصيل ومنطق الخطاب والموقع الإخواني الجديد، يظهر في ثنايا تعليقات ومواقف الشخصيات السياسية والإعلامية والرمزية التي تدور في فلك حركة الإخوان السورية، وحيث أن مدى تطابقها كان يدل على وجود توجه عام ومركزي من الحركة تجاه هذه المسألة.
إذ ثمة ميل شديد لموالاة الدولة، عبر ترويج وشرعنة ما تفعله، أيا كانت سلوكياتها وخطاباتها، وحتى تطرفها ويمينيتها الوطنية والقومية. تلك الموالاة النابعة من أساس سلطوي يجمع الطرفين. بالضبط كما ينتمي الشاعر السوري أدونيس إلى نوع من المثقفين والشعراء الذين يرون في أنفسهم جدارة السلطة والحكم على الأفكار والتوجهات المجتمعية، هذا المجتمع يجب أن يقتدي بأمثال أدونيس الذي يعرف ما هو "الصح" وما هي مصلحة المجتمع، فإن الإخوان السوريون يتخيلون لأنفسهم نفس السلطة والموقع تجاه المجتمع، وبالتالي الحنين إلى التماهي والمولاة والتطابق مع الدولة، أيا كانت. فالدولة هي الاستعارة الأبرز لتلك السلطوية تجاه المجتمعات. تلك السلطوية التي أساسها ميكانيزم القوة.
يرى الإخوان المسلمون أن الدولة التركية قدمت كل ما استطاعت أن تفعله لأجل السوريين، اللاجئين منهم بالذات، وأنها الآن صارت غير قادرة على تقديم المزيد، خصوصا إذا ما كان ذلك سيمس أمنها القومي. لذا، وحسب هذا الترويج الإخواني، ليس لأحد أن يلوم الدولة التركية على توجهاتها وسلوكياتها، أيا كانت، فهي تفعل كل ما تستطيع أن تفعله.
النصف الآخر المكمل لتلك الديناميكية كامن في توجيه اللوم والعتاب والنقد إلى الطرف الأضعف، الخاضعين المستضعفين الذين ليس لهم أي أحد. فمنطق أدونيس التقليدي، والذي كان وصار تأسيسيا في الثقافة العربية طوال العقود الماضية، الذي يرى أن أُس الخراب العام الذي يغرق منطقتنا إنما مصدره الثقافة والسلوك وطبيعة الشخصية المجتمعية في منطقتنا، وبالتالي ليس فظاعة الأنظمة والأحوال والفضاءات التي تحيط بحيوات هؤلاء الناس، والتي هي من القسوة درجة تفقدهم القدرة على تجاوز أي شيء مما يغرقون فيه. صار يتبناه الإخوان السوريون تماما.
منطق أدونيس الثقافي، وما ومن شابهه، كان الجذر الرهيب الدافع لغض النظر عن هول ما فعلته الكيانات والمؤسسات والأجهزة والاستراتيجيات بحق المستضعفين، بل لومهم وتوبيخهم. هذا الموقف يبدو أن الخطاب الإخواني صار يتبناه تماما.
فأحوال اللاجئين السوريين البائسة سببها السلوكيات والأفعال العامة للاجئين أنفسهم. فهم ـ حسب خطاب الإخوان ـ لا يلتزمون بالقانون العام التركي ولا يحترمون قيم المجتمع التركي ولا يمنحون اعتبارا واضحا لموقعهم المؤقت في تركيا، وطبعا لأنهم لا يوالون حركة الإخوان المسلمين بما فيه الكفاية، لتتمكن من الدفاع عنهم، سواء في تركيا أو في الداخل السوري.
أي أن معاناة اللاجئين السوريين لا تتعلق بالتحولات التي تشهدها أجهزة ومؤسسة الحكم التركية، والتي ترغب من خلال ضغوطها على اللاجئين السوريين جذب انتباه وولاء القواعد الاجتماعية القومية التركية، التي تخلت عن الحزب الحاكم بشكل نسبي خلال السنتين الأخيرتين، بل من اللاجئين السوريين أنفسهم.
أخيرا، فإن الشاعر والمفكر السوري أدونيس، وبالرغم من كمية الأدوات الفوقية التي ظل يستعملها في عمله، من شعر ومعرفة وثقافة، إلا أنه كان واضحا تماما في موالاة "مصالحه" الذاتية بكل إصرار. فجملة المؤسسات والانشغالات التي اندرج فيها أدونيس طوال تجربته، كانت تؤمن له دخلا وموقعا ونمطا من الحياة المرفهة، التي ما نال من مثلها أي مثقف عربي آخر قط. كان ذلك بفضل شبكة العلاقات التي يملكها أدونيس مع العشرات من المؤسسات الثقافية العربية والغربية التي كانت تقدم له تلك العطايا. وطبعا كان معروفا عنه تلهفه الدائم في سبيل نيل الجوائز وعائداتها. وفي مرات غير قليلة، كانت خيارات وخطابات أدونيس الثقافية والمعرفية، إنما واضحة السعي للتماهي مع تلك المؤسسات الراعية لأعماله.
الإخوان المسلمون السوريون مصابون بمثل ذلك. فهم في المحصلة صاروا نخبة من الناس الذي يملكون شبكة من المصالح والتطلعات الشخصية والذاتية، لا يمكن تأمينها إلا عبر القوى والكيانات التي مثل تركيا. وصل الحال بكثيرين منهم لأن تغدو تلك المصالح الذاتية بحد ذاتها إلى قضيتهم المستترة، لكن الأكثر حقيقية.
دون شك، ثمة بون شاسع من الفروق الأيديولوجية والخطابية بين نمط أدونيس الثقافي وبين ما تتبناه حركة الإخوان المسلمين السورية. لكن "عبادة الذات" وتفضيل الأقوياء وتوجيه التوبيخ للضعفاء وتفضيل المصلحة الذاتية على القضايا العامة، إنما هي تفاصيل تتجاوز أية ستارة أيديولوجية وخطابية.
اقرأ للكاتب أيضا: حنين عراقي ثلاثي الأبعاد لصدام حسين وزمنه
ـــــــــــــــــــــالآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).