يقف أمام محل سوري مغلق بعد تعرضه لاعتداء من متظاهرين أتراك
يقف أمام محل سوري مغلق بعد تعرضه لاعتداء من متظاهرين أتراك

رستم محمود/

نام السوريون من مؤيدي الثورة السورية على بحر من الخطابات والاستراتيجيات والتوجهات السياسية التمجيدية التي كانت ترعاها وتُشيدها حركة الإخوان المسلمين السورية تجاه الدور التركي في مسألة هؤلاء السوريين، خصوصا في رعايتها لملايين اللاجئين منهم على أراضيها.

فأساطير من مثل "الحكاية الحديثة للمُهاجرين والأنصار"، ومروية "أسد السُنة"، ومعادلة الحليف الوحيد للشعب المغدور، سعى الإخوان السوريون لأن يراكموها لسنوات، ويحولوها قدر المُستطاع إلى وحدة قياس في أذهان هؤلاء السوريين.

قبل أيام قليلة معدودة، استفاق نفس هؤلاء السوريون على ما هو عكس ذلك تمام.

صاروا يشاهدون رموزا للإخوان السوريين وهم يؤيدون ويفسرون ويحللون ويشرعنون الاستراتيجية الحكومية التركية الجديدة تجاه هؤلاء المُستضعفين السوريين؛ الحكومة التركية التي صارت تتبنى خطابا وطنيا شعبويا تجاه النازحين السوريين، شبيها بخطابات اليمين الأوربي، وسلوكيات عقابية شبيهة بما تمارسه المؤسسات الأمنية اللبنانية تجاه اللاجئين السوريين.

ثمة ميل شديد لموالاة الدولة، عبر ترويج وشرعنة ما تفعله

​​ثمة ما هو "أدونيسي" في تفاصيل ومنطق الخطاب والموقع الإخواني الجديد، يظهر في ثنايا تعليقات ومواقف الشخصيات السياسية والإعلامية والرمزية التي تدور في فلك حركة الإخوان السورية، وحيث أن مدى تطابقها كان يدل على وجود توجه عام ومركزي من الحركة تجاه هذه المسألة.

إذ ثمة ميل شديد لموالاة الدولة، عبر ترويج وشرعنة ما تفعله، أيا كانت سلوكياتها وخطاباتها، وحتى تطرفها ويمينيتها الوطنية والقومية. تلك الموالاة النابعة من أساس سلطوي يجمع الطرفين. بالضبط كما ينتمي الشاعر السوري أدونيس إلى نوع من المثقفين والشعراء الذين يرون في أنفسهم جدارة السلطة والحكم على الأفكار والتوجهات المجتمعية، هذا المجتمع يجب أن يقتدي بأمثال أدونيس الذي يعرف ما هو "الصح" وما هي مصلحة المجتمع، فإن الإخوان السوريون يتخيلون لأنفسهم نفس السلطة والموقع تجاه المجتمع، وبالتالي الحنين إلى التماهي والمولاة والتطابق مع الدولة، أيا كانت. فالدولة هي الاستعارة الأبرز لتلك السلطوية تجاه المجتمعات. تلك السلطوية التي أساسها ميكانيزم القوة.

يرى الإخوان المسلمون أن الدولة التركية قدمت كل ما استطاعت أن تفعله لأجل السوريين، اللاجئين منهم بالذات، وأنها الآن صارت غير قادرة على تقديم المزيد، خصوصا إذا ما كان ذلك سيمس أمنها القومي. لذا، وحسب هذا الترويج الإخواني، ليس لأحد أن يلوم الدولة التركية على توجهاتها وسلوكياتها، أيا كانت، فهي تفعل كل ما تستطيع أن تفعله.

"الشاعر السوري علي إسبر المعروف بـ"أدونيس

​​النصف الآخر المكمل لتلك الديناميكية كامن في توجيه اللوم والعتاب والنقد إلى الطرف الأضعف، الخاضعين المستضعفين الذين ليس لهم أي أحد. فمنطق أدونيس التقليدي، والذي كان وصار تأسيسيا في الثقافة العربية طوال العقود الماضية، الذي يرى أن أُس الخراب العام الذي يغرق منطقتنا إنما مصدره الثقافة والسلوك وطبيعة الشخصية المجتمعية في منطقتنا، وبالتالي ليس فظاعة الأنظمة والأحوال والفضاءات التي تحيط بحيوات هؤلاء الناس، والتي هي من القسوة درجة تفقدهم القدرة على تجاوز أي شيء مما يغرقون فيه. صار يتبناه الإخوان السوريون تماما.

منطق أدونيس الثقافي، وما ومن شابهه، كان الجذر الرهيب الدافع لغض النظر عن هول ما فعلته الكيانات والمؤسسات والأجهزة والاستراتيجيات بحق المستضعفين، بل لومهم وتوبيخهم. هذا الموقف يبدو أن الخطاب الإخواني صار يتبناه تماما.

فأحوال اللاجئين السوريين البائسة سببها السلوكيات والأفعال العامة للاجئين أنفسهم. فهم ـ حسب خطاب الإخوان ـ لا يلتزمون بالقانون العام التركي ولا يحترمون قيم المجتمع التركي ولا يمنحون اعتبارا واضحا لموقعهم المؤقت في تركيا، وطبعا لأنهم لا يوالون حركة الإخوان المسلمين بما فيه الكفاية، لتتمكن من الدفاع عنهم، سواء في تركيا أو في الداخل السوري.

أي أن معاناة اللاجئين السوريين لا تتعلق بالتحولات التي تشهدها أجهزة ومؤسسة الحكم التركية، والتي ترغب من خلال ضغوطها على اللاجئين السوريين جذب انتباه وولاء القواعد الاجتماعية القومية التركية، التي تخلت عن الحزب الحاكم بشكل نسبي خلال السنتين الأخيرتين، بل من اللاجئين السوريين أنفسهم.

ثمة ما هو "أدونيسي" في تفاصيل ومنطق الخطاب والموقع الإخواني الجديد

​​أخيرا، فإن الشاعر والمفكر السوري أدونيس، وبالرغم من كمية الأدوات الفوقية التي ظل يستعملها في عمله، من شعر ومعرفة وثقافة، إلا أنه كان واضحا تماما في موالاة "مصالحه" الذاتية بكل إصرار. فجملة المؤسسات والانشغالات التي اندرج فيها أدونيس طوال تجربته، كانت تؤمن له دخلا وموقعا ونمطا من الحياة المرفهة، التي ما نال من مثلها أي مثقف عربي آخر قط. كان ذلك بفضل شبكة العلاقات التي يملكها أدونيس مع العشرات من المؤسسات الثقافية العربية والغربية التي كانت تقدم له تلك العطايا. وطبعا كان معروفا عنه تلهفه الدائم في سبيل نيل الجوائز وعائداتها. وفي مرات غير قليلة، كانت خيارات وخطابات أدونيس الثقافية والمعرفية، إنما واضحة السعي للتماهي مع تلك المؤسسات الراعية لأعماله.

الإخوان المسلمون السوريون مصابون بمثل ذلك. فهم في المحصلة صاروا نخبة من الناس الذي يملكون شبكة من المصالح والتطلعات الشخصية والذاتية، لا يمكن تأمينها إلا عبر القوى والكيانات التي مثل تركيا. وصل الحال بكثيرين منهم لأن تغدو تلك المصالح الذاتية بحد ذاتها إلى قضيتهم المستترة، لكن الأكثر حقيقية.

دون شك، ثمة بون شاسع من الفروق الأيديولوجية والخطابية بين نمط أدونيس الثقافي وبين ما تتبناه حركة الإخوان المسلمين السورية. لكن "عبادة الذات" وتفضيل الأقوياء وتوجيه التوبيخ للضعفاء وتفضيل المصلحة الذاتية على القضايا العامة، إنما هي تفاصيل تتجاوز أية ستارة أيديولوجية وخطابية.

اقرأ للكاتب أيضا: حنين عراقي ثلاثي الأبعاد لصدام حسين وزمنه

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.