يقول الأديب الكبير غازي القصيبي، فيما يعده مقولاته غير المأثورة: "الكرم العربي ظاهرة غذائية". يقول هذا منتقدا انحصار معاني الكرم التي هي أكثر وأعمق وأكبر من المعنى الوحيد: "ملء بالبطون الطعام". هذا المعنى الذي استولى على ذاكرة العربي من جاهليته الأولى، وإلى اليوم؛ لأسباب تتعلق بالبيئة والثقافة، وما بينهما. بينما بقيت بقية/ سائر المعاني الأسمى والأجمل والأكثر فائدة في مجال الخير العام محل إهمال وتهميش، بل وربما إلغاء؛ إلغاء يتعمّق في التحوّل الصريح إلى المعنى النقيض.
اليوم، يعاني الكرم العربي من فقر مدقع في الأخلاق؛ مقرونا بـ"كرم" مسرف في "الهدر الغذائي"، هذا الهدر الذي لا ينفرد به العربي من حيث الطبيعة الأولى/ الطبيعة المجردة لممارسة الهدر، ولكنه ينفرد به من حيث إحالته إلى معنى الكرم المتضخم في الوجدان العربي، حيث يصبح ـ بعد هذه الإحالة ـ فعلا متعمدا/ مقصودا بذاته لإضفاء معنى متخيل/ متوهم في السياق الاجتماعي.
الهدر الغذائي بقدر ما هو إشكال عربي داخلي، هو إشكال عالمي، تتعلق به كثير من الإشكاليات التي تبدأ من أبجديات الإنتاج إلى نهايات الاستهلاك، وما بعد الاستهلاك من تلوّث بيئي. ولهذا، بدأت معظم المنظمات العالمية المعنية بالإنسان؛ من حيث وجوده على المستوى الطبيعي وما فوق الطبيعي/ الحقوقي، تُعنى بمسألة الهدر الغذائي الذي يستفز مشاعر القلق على مستقبل النوع الإنساني المرتبط وجوديا بهذا الكوكب الوحيد؛ بقدر ما يستفز مشاعر الإنسانية عندما يقترن بحالات الجوع الراهن المصاحب لهذا الهدر زمنيا على اختلاف المكان، وربما مكانيا في كثير من الأحيان.
يعاني مليار إنسان (وتقدره بعض المنظمات بـ 820 مليون تحديدا) من الجوع، في مقابل هدر غذائي عالمي يستطع تغطية هذا الجوع ومثله معه. نحن هنا لا نتحدث فقط عن الهدر الغذائي الذي يتمثل بفائض المطاعم/ المطابخ الخاصة والعامة، ولا بما يفيض عن الاستهلاك الجزئي؛ فيرمى به في سلة المهملات، بل نتحدث عن هذا وما هو أشمل منه، حيث الهدر المصاحب لعميات الإنتاج والتسويق والتخزين...إلخ، إذ لا يقل الهدر في هذا المجال عن الهدر في المجال الأول، وهو المجال المرئي للجميع، وبالتالي، المستفز لأكبر قدر من مشاعر أولئك الذين يكادون يموتون كمدا حين يرون "إنسانا ما" يموت بسبب نقص الغذاء؛ بينما تشكو مجتمعات كثيرة من فائض الغذاء.
تتعدد الإحصائيات، بل وتتضارب في نتائجها، عندما تحاول تحديد أكثر دول العالم هدرا للغذاء. المملكة المتحدة، ماليزيا، سنغافورة، تجعلها بعض الإحصائيات في رأس القائمة عالميا. السعودية والإمارات تجعلها بعض الإحصائيات في رأس قائمة الهدر الغذائي عربيا. لكن الملاحظ أن هذه الإحصائيات على تباينها واختلاف معاييرها، تفصح عن حقيقة أن الهدر ليس مقرونا ـ اقترانا شرطيا ـ بالوفرة المادية، فبعض الإحصائيات تضع الفلسطينيين والمصريين والمغاربة من ممارسي الهدر الغذائي، كما هو الحال مع السعوديين والإماراتيين!
يرتبط الهدر الغذائي بالعجز عن إدارة الناس لمواردهم الغذائية، أكثر مما يتعلق بالغنى والفقر. عندما يتساوى الغني والفقير في هذا العجز عن إدارة إنتاج وتسويق وتخزين واستهلاك الغذاء؛ يتساوون أو يتقاربون في الهدر الناتج عن نمط فكري واحد. الدول العربية الغنية، والمتوسطة الغنى، والفقيرة، كلها تتشارك جميعا في ممارسة هذه العادة الاجتماعية السيئة جدا؛ لأن الوعي الاجتماعي/ الثقافي يمتاح من معين واحد تقريبا.
بينما نجد الهدر الغذائي العالمي/ غير العربي مرتبطا ـ في أكثره ـ بمراحل الإنتاج والتسويق مقرونا بضرورات معينة بهذه المراحل، نجد الهدر الغذائي العربي مرتبطا بمراحل الاستهلاك المقرونة بمعاني ثقافية مقصودة تحيل ـ في مجملها ـ إلى معنى الكرم، أو إلى معنى الفخر المتضمن في الكرم.
الهدر الغذائي العالمي يأتي كضرورة، أو كفعل مصاحب غير مقصود لذاته، بينما يأتي "الهدر الغذائي العربي" كتعبير وحيد عن معنى "الكرم العربي" الذي يحظى بأعلى قدر من التعظيم والتمجيد، ما يعني أن الهدر الغذائي يحظى بذات التعظيم والتمجيد. ولهذا، تتضخم الموائد على تخوم المجاعات في العالم العربي؛ وليس ثمة ضمير يقلق أو يتعذب؛ لأن المعنى المتضخم حد التقديس للكرم الغذائي/ الهدر الغذائي يستطيع قمع هذا القلق واستبعاد هذا العذاب المرتبط بالضمير الاجتماعي/ الجمعي المقدس للكرم.
لا يعني هذا أن كل فرد في هذا المجموع المتواطئ على تقديس معنى الكرم، يوافق بذات القدر من التواطؤ على مثل هذا السلوك الهدري الذي تعده المجتمعات المتخلفة كرما. ظهر كثيرون، مثقفون ومسؤولون ووجهاء اجتماعيون وفنانون، طالبوا بالتصدي لهذه الظاهرة السلبية، وبعضهم طالب بسن عقوبات رادعة على ممارسي هذا الهدر ولو كان ممارس الهدر يمتاح من ماله الخاص. لكن، تعجز هذه الأصوات الفردية الخارجة عن النسق الثقافي السائد عن التصدي للمتجذر الثقافي العميق المرتبط بأكثر من بُعد من أبعاد الذات.
الباحث اللبناني القدير/ مصطفى حجازي حاول مقاربة هذا الظاهرة من النواحي النفسية في كتابه الرائد: "التخلف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، ص118/119"، حيث ربطها بمرحلة الطفولة الأولى التي لا تزال تعيشها المجتمعات النامية، وتحيدا بمرحلة النشاط الفمي. يقول حجازي: "من الناحية النفسية فالطعام من أكثر النشاطات ارتباطا بالحب، نظرا لارتباط النشاط الفمي أثناء الرضاعة بالعلاقة الوثيقة مع الأم. الحب والحليب يمتزجان ويبادلان الدلالة" ـ "إلا أن الطعام يأخذ في البلدان النامية قيمة مبالغا فيها، بالنسبة لبقية أشكال النشاط الإنساني"، ثم يربط كل ذلك بندرة الطعام في البلدان النامية، أي بظاهرة الجوع الحاضرة أو تلك التي لا تزال تعمل في عمق الذاكرة الجمعية التي تمتد مجاعاتها لعشرات القرون.
يمعن حجازي في نقد هذا المسلك المرضي فيقول عن ممارسي هذا الهدر/ الكرم: "إنهم بحاجة إلى استعراض خيرات موائدهم الغنية بصنوف الطعام، ليدللوا على إفلاتهم من العوز والخواء وقلق الجوع"، مؤكدا على أن قلق القلة كامن عند المترفين، وظاهر عن المعوزين، وكأنه/ المسرف يدفع بالإسراف شبح الفقر. ويرى حجازي أن الطعام وسيلة ممتازة لتدعيم العلاقات التملكية داخل الأسرة، "فالأم، أداة الحب التملكي، وأفصح معبر عنه، تمتلك الزوج والأبناء من خلال امتلاك قنواتهم الهضمية"، وهكذا، فالمرأة في العالم الثالث تغزو أولادها ـ كما يؤكد حجازي ـ من خلال أجوافهم.. إلخ التحليل الجميل المتشعّب لهذا الباحث القدير.
الأهم من كل ما سبق أن حجازي يربط هذه الظاهر السلبية (المبالغة في ترميز لغة الطعام) بما يعانيه الإنسان في العالم العربي من اعتلالات نفسية واسعة الانتشار. يقول: "والطعام تعويض رئيسي، ويكاد يكون مع الشراب، بين الفئات التي تتعاطاه، التعويض الوحيد عن الإحباطات المتنوعة التي يعاني منها إنسان المجتمع المتخلف، أولها الإحباط العاطفي والجنسي"، ثم هو يربط ذلك/ مسألة الطعام (الكرم كظاهرة غذائية كما يقول القصيبي) بأحد مسببات/ ظواهر التخلف، حيث الاتكالية العامة المرتبطة بالكسل العام، مشيرا إلى أن النكوص إلى نشاط فمي يرتبط مباشرة ويقود رأسا إلى استمرار الوضعية الاتكالية الطفولية/ البدائية. وهي بلا شك الوضعية السائدة عند أهم العناصر المجتمعية في العالم العربي.
أخيرا، مما يؤكد أن الكرم العربي مظهر هدر تفاخري، ولا علاقة له بالمعاني السامية الكثيرة المرتبطة بكون الإنسان كريما، أن مظاهر الكرم المقصودة عن الإطلاق هي مظاهر إعلانية/ تفاخرية. الكريم/ الباذل، أو من يوصف بذلك، لا يجود إلا بحضرة شهود يستطيعون رواية تفاصيل ما يفعل، أي تسجيل تضحياته بأمواله لتحقيق أمجاد ذاتية أو قبلية. بينما تتأبى عليه نفسه في المواقف الإنسانية التي يصعب أو يستحيل فيها تسجيل "هذه الأمجاد" أن يبذل معشار ما يبذله في الإعلان التفاخري. لهذا تجد موائده/ مواقف بذله متاحة للأغنياء والوجهاء والأصدقاء الذين يستطيعون تسجيل ما يفعله في رصيده التفاخري/ مجده، بينما يبخل على الفقراء بأقل القليل، وإن جادت نفسه؛ فبفتات الموائد التي كان سيرمي بها، فهنا ربما يتحامل على نفسه، ويوصى بها لأفواه الجائعين؛ لعل وعسى أن يرصده راصد؛ فيذكره بهذا الكرم النبيل!
اقرأ للكاتب أيضا: إيران أو مستقبل الحلم الأصولي
ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).