مطار القاهرة
مطار القاهرة

مالك العثامنة/

تجنبت خلال العامين السابقين قبول أي دعوة سفر إلى مصر، وكذلك كنت حذرا في رحلتين إلى عمان أثناء الحجز عبر الإنترنت من أي توقف ترانزيت ولو لساعات قليلة في مطار القاهرة، مفضلا في رحلة منهما أن أتوقف ساعات طويلة جدا في مطار بلد آخر وبعيد.

لم يعد الأمر سرا، الكل صار يتحدث عن منظومة الفساد في جمهورية العسكر المصرية. فساد كان موجودا منذ أيام النظام السابق لكنه صار الآن شرسا إلى حد الرعب.

لذا، ورغم أن الخطوط البريطانية لم توضح أسباب وقف رحلاتها لمدة سبع أيام بالتفصيل، مشيرة إلى أن الأمر له علاقة بمحاذير أمنية، إلا أنني تذكرت تجاربي مع مطار القاهرة في رحلات ترانزيت، كان لا بد فيها أن أدفع "أتاوة" بدون تسعيرة واضحة لضابط ما يلوح بجواز سفري ثم يلقيه بوضعية الطيران الحر نحو نافذة يجلس خلفها عسكري آخر، وقد تكومت جواره جوازات عديدة ومتعددة.

حليف واحد فقط، أبقت عليه العسكرتاريا، وهو الأزهر

​​التجارب كانت مخيفة رغم أنها وقعت في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، لكن الوقائع الواردة من مصر بعد مبارك وفي عهدي ما بعد الثورة (مرسي والسيسي) يكشفان تردي الحالة الأمنية إلى حد أن الأجهزة الأمنية نفسها هي التي تدير مؤسسة البلطجة المصرية ولا أحد محصن من أن يكون ضحية.

(لا تزال مأساة الإيطالي ريجيني الدموية وقد تحولت إلى ملهاة أمنية ساخرة طازجة وحية وقابلة للتكرار دوما).

مطار القاهرة، بوابتك الأولى في جمهورية العسكر، وصار الرعب الذي كان يتملكني وأنا أدخل الحدود السورية قبل عام 2011 برا، هو نفسه الذي يسيطر عليّ وأنا أفكر بخوف من احتمالية اضطراري أن أتوقف في أي مطار أو معبر حدودي مصري.

طبعا، سيتنطح من سيتهمني أني مع الإخوان، وهذه تهمة بائسة منتهية الصلاحية خصوصا إذا دقق هؤلاء في سجل مقالاتي ليكتشفوا أني لا أرى في تيار الإخوان وكل تيارات الإسلام السياسي إلا الوجه الآخر المماثل والمطابق من تيار العسكرتاريا في الاستبداد والطغيان والتوحش.

(وهذه الإضافة في الجملة الأخيرة، ستفتح شهية مناصري الإخوان أيضا للهجوم على ما أكتب بعد أن ابتهجوا لكل ما سبق ذكره من انتقادات للأمن المصري).

أنا لا أهاجم مصر، بل أدافع عن المصريين ممن أعرف عنهم وأعرفهم، هؤلاء الذين أعتز بمعرفتهم أو أفتخر أني تعلمت منهم مشاهدة وقراءة واستماعا لكل ما أنتجوه من علوم وآداب وفنون.

♦♦♦

الرشوة ليست سرا في أي مكان في مصر، فهي نتيجة طبيعية لرشوة أكبر حجما على مستوى الدولة المصرية كلها، رشوة مقنعة بالقانون، والرشوة جزء من فساد بات مؤسسة ضخمة ترعاها السلطة.

 فالذي لم يعد سرا أيضا، هو استحواذ العسكرتاريا التي تحكم مصر استبدادا، على معظم قطاعات الاقتصاد المصري، فلم تعد أجهزة الدولة المدنية تمثل القطاع العام في الاقتصاد المصري بالتشاركية مع مؤسسات القطاع الخاص، ما يحدث الآن هو تلاشي القطاعين العام والخاص لصالح المؤسسة العسكرية التي اختطفت الدولة واستحوذت "بالسلطة" على أدوار كل قطاعاتها الرسمية والأهلية. وهذا ليس بالأمر الجديد، فالمؤسسة العسكرية كانت دوما منذ انقلاب ثورة يوليو هي المهيمنة على المشهد السياسي، والصناعات العسكرية التي كانت حلما ناصريا يواجه فيه خصومه ويثبت فيه هيمنته المحلية والإقليمية والدولية كانت قد بدأت فعليا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية من خلال استقطاب علماء الصناعات الثقيلة في السلاح من ألمانيا النازية والمهزومة (علماء الصف الثاني والثالث بعد أن تم توزيع الصف الأول على الدول العظمى)، فكانت مثلا مؤسسة مثل هليبوليس عام 1949 تصنع القنابل اليدوية ومدافع المورتر، وشركة المعادي للصناعات الهندسية في منتصف الخمسينات كانت تنتج قاذفات القنابل والمسدسات بينما شركة حلوان للصناعات الهندسية في ذات الفترة كانت تنتج المكونات المعدنية للذخائر.

أنا لا أهاجم مصر، بل أدافع عن المصريين ممن أعرف عنهم وأعرفهم

​​تلك عينة من مؤسسات مملوكة للقوات المسلحة المصرية، في زمن طموحات عبد الناصر التوسعية وتتطابق مع عقلية العسكرتاريا التي حكم فيها مصر.

لكن في عام 1979، وبعد كامب ديفيد أصدر الرئيس الراحل أنور السادات القرار رقم 32 لذات السنة وتضمن إنشاء جهاز مشروعات الخدمة الوطنية، فصناعة السلاح لا تتوافق مع السلام الذي كان السادات يسوق له، وتلك المقدرات الصناعية كان لا بد لها أن تتجه نحو القطاعات المدنية لكي تبقى بكل مواردها البشرية والإدارية موجودة.

فتحولت هليوبوليس إلى أكبر منافس في صناعات الدهانات المنزلية، وشركة المعادي صارت تنتج الأجهزة الزراعية وآلات التدريب الرياضي، بينما انتهت شركة حلوان بخبرتها في التعدين إلى صناعة طناجر الضغط وأواني الطهي شديدة التحمل!

هذا تحول قد يبدو لطيفا وهو كذلك لولا أن تلك الشركات مملوكة للقوات المسلحة وتنافس فيها المؤسسة العسكرية كل قطاعات الإنتاج الاقتصادي وقطاع التجارة الحرة في مصر.

في عهد السيسي، وبظل قانون السادات نفسه لعام 1979، استحوذت شركات الصناعات العسكرية على كل إنتاج الحقل المدني، لتبدأ إمبراطورية الاقتصاد العسكرية بالتضخم، وهي المهيمنة أيضا على الحياة السياسية، وليس بعيدا عن الذاكرة قصة حليب الأطفال قبل سنوات قليلة حين صارت صناعة هذا الحليب الحيوي والمهم احتكارا للمؤسسة العسكرية بلا منافس كحلي أو خارجي، وبشروط العسكر لا سواهم.

كل ما فعله نظام الحكم في مصر أنه عزز تلك السطوة وكان من ذلك مثلا قرار جمهوري أصدره الرئيس المصري باعتبار وزارة الإنتاج الحربي من الجهات ذات الطبيعة الخاصة، والذي تنضم به الوزارة إلى جانب رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء وفي نفس المستوى، مع الأخذ بعين الاعتبار غياب الرقابة من أي مستوى على موازنة الجيش والقوات المسلحة، مما يجعله يعرقل تقدير حجم النشاط الاقتصادي للجيش في القطاعات المدنية، إذ أن القانون يحظر نشر أي أرقام تتعلق بتفاصيل موازنته، وهو طبعا قانون أصدرته النخبة الحاكمة في مصر، وهي ذاتها العسكر.

♦♦♦

كان حكم مبارك، الذي ثار عليه المصريون في انتفاضة شعبية عظيمة لم تكتمل كثورة، يتميز فيه الجيش بوضع خاص واستحواذي لكن بدون تغول، فهناك قوى استنبتها نظام مبارك مثل الحزب الوطني "بإدارة ابنه جمال" والتي كانت تتحالف مع رجال الأعمال أو تخلقهم حين الضرورة للسيطرة على مدخلات ومخرجات الاقتصاد المصري بالإضافة إلى حصة الجيش المعتادة والتاريخية، مع عدم تغييب القوى السياسية الحية التي كانت لا تزال حينها قادرة على رفع الصوت ولو بمشقة لتشكل رقابة شعبية على الفساد القائم، فتضعه ضمن مؤشرات مرتفعة لكن لا ترتفع أكثر.

بقسوة المحب واطمئنان المتيقن أقول والحال كذلك: لم تكتمل الثورة في مصر بعد!

​​في عهد ما بعد الانتفاضة المصرية على كل ما هو قائم حينها، كل ما هو قائم على الإطلاق، كانت مرحلة الحكم الإخواني والتي انتهت بما يليق بهذا التيار من سذاجة سياسية وتربص وتسلق لاختطاف منجزات ما ثار من أجله المصريون، ثم عهد السيسي الذي أتى بانقلاب على الخاطفين، وقد فهم اللعبة جيدا، فأنهى الأحزاب (حتى حزب الدولة نفسه) وأنهى تحالفات رجال الأعمال من حيتان مسيطرة، وأنهى المعارضة السياسية ولو بالحد الأدنى بسلطة القمع البوليسي، وترك الساحة بكل ما فيها لمؤسسته العسكرية، فهي التي تقود المشهد السياسي، وهي التي تسيطر على الإعلام بكل أنواعه، وهي التي تتغول في السوق إنتاجا واستيرادا، وهي التي تدير معايير المجتمع الأخلاقية إلى حد الوصول إلى كشوف العذرية سيئة الذكر.

حليف واحد فقط، أبقت عليه العسكرتاريا، وهو حليف لا يغيب عن واجهة السلطة منذ عسكرتاريا المماليك أنفسهم، وهو الأزهر.. فالشرعية مهما استخدمت قوتها الفولاذية فهي بحاجة إلى ذلك "المقدس" لضمان الخضوع المطلق.

لذا..

وبقسوة المحب واطمئنان المتيقن أقول والحال كذلك: لم تكتمل الثورة في مصر بعد!

اقرأ للكاتب أيضا: إعلام على رقعة شطرنج

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.