عراقي نازح من الموصل عام 2016
عراقي نازح من الموصل عام 2016

حسين عبدالحسين/

أظهر فيديو من محافظة واسط العراقية، الأسبوع الماضي، قيام محافظها محمد المياحي بالاعتداء بالضرب على شرطي مرور. قبل أشهر، انتشر فيديو آخر يظهر محافظ نينوى السابق نوفل العاكوب، في مكتبه، وهو يمارس عنفا لفظيا بحق مدير مدرسة لقيام المدير بضرب وتعنيف تلاميذ في مدرسته.

من جنوب العراق الشيعي إلى شماله السني، يختلف العراقيون على أمور كثيرة، لكنهم يتفقون على واحدة: العنف. كان زوج أم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين يؤدبه بالضرب بعصا. انتقل صدام للسكن مع خاله خيرالله طلفاح، صاحب الكتاب الذي يقول فيه إن ثلاثة لا يستحقون الحياة هم "اليهود والفرس والذباب". ويوم حضر جابي الكهرباء يطالب خيرالله بتسديد ما تأخر عليه من مدفوعات، أوعز خيرالله لابن أخته بالتخلص من الجابي. مات الجابي مقتولا. ثم وسّع صدام نشاطاته، وأقام ـ بصفته رئيسا للجنة الزراعة في "حزب البعث العربي الاشتراكي" ـ جهاز إعدامات صفى بموجبه أعداء الحزب، وأعداءه داخل الحزب. وأطلق صدام النار على رئيس العراق، وأطلق حرس الرئيس النار على صدام، فأصابوه في قدمه، وفر هاربا. ثم ترأس صدام، وخاض حربا قصيرة مع شاه إيران، وتصالحا، فحرب جديدة مع إيران "الخميني الدجّال"، فحرب على الكويت.

"راح صدام وجاء مئة صدام" هو القول الذي يردده العراقيون بشكل متواصل اليوم

​​وبين حروبه، تفنن صدّام في قتل العراقيين، بعضهم دفنتهم جرّافاته أحياء في قبور جماعية. بعضهم، كالكرد في الشمال، رماهم بالسلاح الكيماوي. بعضهم الآخر رماهم من على سطوح البنايات، أو فتح في جماجمهم ثغرات بمثقاب البناء الكهربائي. المحظوظون من ضحايا صدام، مثل نسيبيه وابني عمّه صدام وحسين كامل، ماتوا برصاص وقاذفات عشيرتهم في حرب صغيرة في أحد الأحياء السكنية في بغداد. ثم يقولون لك إن أميركا تسبب بالحروب والعنف في العراق.

لم يتوان خصوم صدام العراقيين عن محاولاتهم قتله. لاحقوه، رصدوه، حاولوا قتله في الدجيل، لكنه المهووس أبدا بأمنه، شعر بفطرته أن تلك الخالة التي قبلته ووضعت يدها على سيارته رسمت إشارة، فانتقل إلى سيارة أخرى، ونجا من الاغتيال، وأرسل أزلامه، لا لقتل كل من في الدجيل بلا تفرقة فحسب، بل لجرف البيوت، وحتى أشجار النخيل. هكذا كان صدام، داخل العراق وفي الإقليم، إما قاتل أو مقتول.

لم يأت صدام من المريخ. لم يبتكر العنف كوسيلة وحيدة للتواصل البشري، بل هو كان وليد ثقافة العنف، عاشها وتفوق فيها على كلّ أقرانه، إلى أن وضعت الولايات المتحدة حد لحفلة العنف التي كان يمارسها، وحاولت إنصاف ضحاياه. لكن غالبية ضحايا صدام، أي الشعب العراقي، ظهر أنها على شاكلته، تمارس العنف بلا خجل، إن في المدارس، أو في الشوارع.

"راح صدام وجاء مئة صدام" هو القول الذي يردده العراقيون بشكل متواصل اليوم. يوم استعادت الميليشيات العراقية الشيعية تكريت من الميليشيات السنية الإرهابية (داعش)، راح الشيعة يطلقون النار على ضريح صدام، الذي كان أصلا كومة من الركام. حتى الركام لا ينجو من حفلات العنف العراقية.

الأسبوع الماضي، انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي فيديوهات لمتظاهرين في أكثر من منطقة من العراق، في الجنوب وبغداد والشمال، يهتفون لصدام. ربما هتافهم كان لإثارة حفيظة حكام العراق اليوم، الذين يخالط عنفهم الأقل دموية الفساد. ربما يعتقد العراقيون اليوم، بعدما رأوا عنف من خلفوا صدام في الحكم، أن صدام لم يختلف في عنفه وفساده عن حكام العراق اليوم، وأن الفرق الوحيد هو أن صدام كان ثابتا في الحكم، فيما يتناوب خلفاءه على العنف والفساد، بحسب من يختاره العراقيون كل أربع سنوات.

لم يطالب المعلّقون العراقيون باللجوء إلى القضاء، بل طالبوا بمبادلة العنف بعنف

​​في التعليقات على لقطات ضرب محافظ واسط شرطي المرور وتوبيخ محافظ نينوى مدير المدرسة، يندر أن نقرأ عراقيين يطالبون بالادعاء على المحافظين وإحضارهما أمام القضاء لتقرير عقوبتيهما. يندر أن نقرأ أنه كان على كل من المحافظين اللجوء إلى التدابير الإدارية المتوفرة لإنزال العقوبة بحق شرطي المرور، في حال ثبتت مخالفته، وبحق المدير. 

غالبية العراقيين ترغب في أن ترى كلا من الشرطي والمدير يضربان المحافظين، أي يبادلاهما العنف بالعنف. صحيح أن الضحيتين تعرضتا للعنف، ولكن يمكن لكل منهما اللجوء إلى القضاء، وطلب تعويضات معنوية (اعتذار) ومادية، والتسبب بالإطاحة بالمحافظين وتحويلهما إلى عبرة لأي محافظين قد يلجؤون إلى العنف مستقبلا في إدارة شؤون محافظاتهم.

لم يطالب المعلّقون العراقيون باللجوء إلى القضاء، بل طالبوا بمبادلة العنف بعنف. لم يمت صدّام. مات جسديا، لكن الثقافة التي أنجبته ما تزال حية، وما تزال مسؤولة عن الشقاء الذي يعيشه العراق ومنطقة الشرق الأوسط بأكملها، وبدون التخلي عنها، يستحيل أن تقوم للعراق، أو للعراقيين، ولا للعرب والإيرانيين، قائمة.

اقرأ للكاتب أيضا: يوم غرقت سيادة لبنان مع السفينة الإسرائيلية

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.