مقاتل من فصائل المعارضة السورية المدعومة من تركيا بالقرب من تل رفعت
مقاتل من فصائل المعارضة السورية المدعومة من تركيا بالقرب من تل رفعت

براء صبري/

في الثاني من شهر يوليو، قام الجيش التركي بقصف القوات الكردية في مدينة تل رفعت بشمال حلب، وجاء ذلك القصف في أعقاب حادثة مماثلة في منتصف شهر يونيو، حيث أعلنت وزارة الدفاع التركية أن القوات التركية قتلت عشرة مسلحين وذلك ردا على مقتل جندي تركي. وبالطبع، تُظهر تلك المناوشات المتقطعة التي اندلعت مؤخرا كيف أصبحت مدينة تل رفعت بؤرة توتر في المنطقة المتنازع عليها بشدة في شمال غرب سوريا، حيث تتمركز جميع القوات المسلحة الكردية والروسية والتركية والسورية على مقربة من بعضها البعض.

وعلى مقربة من الحدود التركية، صارت مدينة تل رفعت تقع بين سندان قوات النظام السوري التي تسيطر على مدينة حلب، ومطرقة القوات الموالية لتركيا، محل اهتمام خاص بالنسبة لتركيا وذلك لكونها المحطة الأخيرة للقوات الكردية في غرب سوريا. وفي منتصف فبراير من العام 2016، دخلت وحدات حماية الشعب الكردية مدينة تل رفعت، ومطار منغ العسكري، وبعض القرى المحيطة بها تحت غطاء جوي روسي، وكانت السيطرة على تل رفعت بمثابة آخر نجاح عسكري حققته القوات الكردية التي تحاول توحيد مدينة عفرين ذات الأغلبية الكردية، والتي استولت عليها وحدات حماية الشعب في عام 2012 بعد انسحاب قوات النظام منها ـ ومنطقة روجافا الكردية المتمتعة بالحكم الذاتي في شرق سوريا، وتشكيل كيان كردى في سوريا يتمتع بالحكم الذاتي.

أدت العلاقة المتناقضة بين روسيا وتركيا في سوريا إلى زيادة الوضع تعقيدا

​​ومع دخول وحدات حماية الشعب مدينة تل رفعت ذات الأغلبية العربية ـ التي تقع أيضا تحت الحماية الروسية غير الرسمية ـ نزحت مئات العائلات القاطنة هناك، ما أعطى تركيا ذريعة لتبرير تحرشاتها المستمرة بالمناطق الكردية الممتدة من نهر دجلة شرقا إلى عفرين غربا وذلك على الرغم من أن المناطق الشرقية والغربية ظلت منفصلة عن القوات الموالية لتركيا.

وردا على ذلك، طالبت قيادات الأكراد المعارضة السورية مرارا بتوقيع اتفاقية تحد من تدخل القوات التركية في مناطقهم مقابل عودة تلك المنطقة إلى المعارضة. وظل الأكراد حتى اللحظات الأخيرة قبل بدأ معركة عفرين ـ المحتلة حاليا من قبل الجيش التركي ـ وعدد من المليشيات المعارضة الراديكالية السنية، يحاولون حماية تلك المنطقة ومنع دخول النظام وحلفائه الإيرانيين لها.

شهد الوضع في تل رفعت تغيرا كبيرا منذ يناير 2018، فمع بداية العمليات العسكرية التركية ضد وحدات حماية الشعب في عفرين، انتقلت الحامية العسكرية الروسية إلى منطقة تل رفعت، وأخلت موقعها بشكل مفاجئ تاركة منطقة عفرين ـ المفترض أنها تحت حمايتها، لتركيا. وكان الحديث فيما سبق عن احتلال كردي جزئي لمناطق ذات أغلبية عربية فتحول الحديث إلى احتلال تركي كلي لمنطقة ذات صبغة كردية خالصة، وكذلك مناطق متنازع عليها منذ البداية وتقطنها الأغلبية العربية.

وفي الوقت عينه، بقيت تل رفعت ومنغ تحت سيطرة الوحدات الكردية، وبحماية روسية شبه رسمية، وظل الوجود الكردي في هذه المناطق بمثابة أداة دعائية لخدمة القوات الموالية لتركيا في المنطقة. ومع ذلك، وعلى الرغم من الوعود المتتالية للحكومة التركية باستعادتها، ظلت المنطقة الصغيرة تلك محمية من التقدم التركي.

من المؤكد أن كل تلك القوات في شمال حلب تقف على أراض غير صلبة لكونها غريبة عنها، حيث تحتل تركيا عفرين الكردية وتجند مقاتلين سنة سوريين للقيام بالمهمات الخبيثة هناك، كما تبقي روسيا على مقاتلين أكراد في تل رفعت ذات الأكثرية العربية، وتمنع السكان الأصليين من العودة إليها. ورغم أن المقارنة غير جائرة بين المنطقتين على اعتبار أن عفرين أكبر بكثير من تل رفعت، لكن مقاتلو وحدات حماية الشعب مواطنون سوريون فيما القوات التركية هي قوات احتلال أجنبي.

أدت العلاقة المتناقضة بين روسيا وتركيا في سوريا إلى زيادة الوضع تعقيدا، فعندما قامت تركيا بإسقاط طائرة روسيا في 24 نوفمبر 2015، توقع العالم غضبا روسيا عارما إلا أن الروس قرروا زيادة الشحن الإعلامي وزيادة استخدام الآخرين ضد تركيا لدفعها للرضوخ لها في سوريا. 

وكرد فعل على إسقاط الطائرة الروسية، لم تكتف روسيا بدعم الوحدات الكردية في سوريا فقط، بل زودت عناصر من حزب العمال الكردستاني ـ وهي جماعة كردية انفصالية داخل تركيا تعتبرها أنقرة المحرك الرئيسي لسياستها تجاه الأكراد ـ بصواريخ روسية محمول على الكتف من طراز "إيغلا" والتي استخدموها في إسقاط مروحية تركية في 13 مايو 2016 في محافظة هكاري جنوب شرق تركيا.

فسر كثيرون الدعم الروسي لحزب العمال الكردستاني على أنه رسالة من روسيا مفادها أنه إذا فشلت تركيا في تلبية المصالح الروسية في سوريا، سنحول الحرب إلى داخل تركيا. وبالفعل، فهم الأتراك الرسالة وانساقوا وراء الروس، وهو ما أفرز الوضع المضطرب الذي نشهده مؤخرا بيت البلدين. كما تلاعب الروس بمشاعر الأتراك ونجحوا في إقناعهم بأن الأميركيين يتجهون لتشكيل دولة كردية في شمال سوريا رغم النفيين الكردي والأميركي المستمر.

وفي نفس السياق فإن الكتائب الكردية المتبقية في "تل رفعت" وما حولها، والتي تحرس مخيمات للنازحين الكرد من عفرين هناك تعيش في جو من القلق لكونهم على مقربة من الكماشة التركية. 

ومن الجدير بالذكر أن تلك المنطقة لن تُسلم لتركيا إلا بصفقة تقدم فيها تركيا تنازلات إضافية للنظام السوري، وهناك حديث عن صفقة تسلم فيها تركيا مناطق شمال حماه وجنوب إدلب للنظام وتأخذ بلدة تل رفعت عوضا عنها، رغم أنه من الواضح أن الروس يحاولون إبقاء المنطقة كخيط وصل أخير بينهم وبين الوحدات الكردية في سوريا.

وبما أن الروس لا يرغبون أن يصبح الأكراد وحلفائهم العرب الحليف الراسخ للأميركيين فسيعملون على إبقاء الوحدات الكردية هناك، ويعدونهم بعودة ميمونة لعفرين مجددا. وعلى الرغم من عدم ثقة الأكراد بروسيا إلا أنها تمثل الخيار الوحيد الذي يملكونه لتحرير ثلث المساحة الكردية في سوريا من تركيا.

يبدو أن المعارك لن تتوقف في مناطق التماس في شمال حلب نتيجة التضارب في المصالح

​​في ظل هذه الأوضاع المعقدة وضمن هذه المسار الشديد الخطورة يقع على عاتق الأطراف الدولية المعنية بالشأن السوري مجموعة من المسؤوليات التي يجب تحملها حتى لا تتفاقم الأوضاع. 

وفى هذا الصدد، يتوجب على الولايات المتحدة الأميركية دفع تركيا إلى تجنب فتح معارك مع الوحدات الكردية وتشجيعها للدخول في مفاوضات مع الأحزاب الكردية في تركيا وسوريا للوصول إلى خارطة طريق للعيش المشترك والتجاور المريح. كما يجب أن تعمل واشنطن جنبا إلى جنب مع موسكو لتحييد الأكراد والمنطقة ككل من معارك أخرى قادمة. يجب أيضا أن يتم إبرام صفقة تقوم بموجبها تركيا بالانسحاب من عفرين في مقابل تسليم المناطق العربية في شمال حلب للمعارضة السورية.

فيما يبدو أن المعارك لن تتوقف في مناطق التماس في شمال حلب نتيجة التضارب في المصالح، وهو ما يؤسس لفوضى جديد هناك، ولكنه في ذات الوقت يزيد من واجب الحذر والتدخل الفعال لواشنطن المعنية بالوصول إلى حل لملف لطالما كان السبب في إزعاج المحيط الإقليمي والدولي عامة. وعلى الجميع إدراك أن الأراضي غير الراسخة لن تؤسس القاعدة للوصول إلى حلول ثابتة شمال غرب سوريا.

براء صبري هو كاتب وباحث من سوريا، مقيم في إقليم كردستان العراق، ويعمل مع المنظمات الدولية الإنسانية غير الحكومية، ويكتب في العديد من الصحف العربية المعروفة، والمراكز البحثية المختصة عن شؤون الشرق الأوسط السياسية والاجتماعية.

المصدر: منتدى فكرة

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.