خلال ستة أيام فقط، أضاف التطبيق مليون مستخدم جديد
خلال ستة أيام فقط، أضاف التطبيق مليون مستخدم جديد

في يوم 10 يوليو الماضي، بدأ الناس فجأة في أنحاء العالم يتداولون صورهم في سن الشيخوخة، ويحملون تطبيق FaceApp على أجهزة الموبايل الذكية ليحقق أرقام نمو قياسية تجاوزت 500 في المئة. خلال أسبوع واحد فقط، قام 12.7 مليون مستخدم بتحميل التطبيق (والمفاجأة أن مصر تصدرت دول العالم في نسبة النمو خلال هذا الأسبوع).

لكن إطلاق التطبيق شهد أيضا قلقا غير مألوف في دول عديدة، حيث انطلقت التحذيرات من استخدام التطبيق ـ المملوك لشركة روسية ـ لاختراقه المرتفع للخصوصية، وشملت التحذيرات شخصيات من كبار السياسيين في أميركا وبريطانيا، حتى أن البعض اعتبره تهديدا للأمن القومي.

لماذا يستفز تطبيقا متخصصا في تصوير الوجوه وتغييرها الخبراء والسياسيين لهذه الدرجة؟ كيف يمكن للهو بريء من أي من مستخدمي التطبيق أن يكون خطرا أمنيا ومشكلة تشغل المتخصصين؟

اتفاقية التطبيق المكتوبة بخط صغير جدا تعطي للتطبيق رخصة استخدام الصور بلا حدود

​​الجواب يكمن في فهم القيمة الهائلة للمعلومات في تحديد من يسيطر على مستقبل التقنية وتطبيقاتها، حيث يمكن القول ببساطة إن معظم التطبيقات المستقبلية الضخمة القائمة على الذكاء الاصطناعي تعتمد على البيانات الضخمة (Big Data) في عملها وتفوقها بشكل عام. أضف إلى ذلك، أن هناك جهد متواصل لدى المؤسسات السياسية والأمنية لجمع المعلومات عبر التطبيقات الذكية بأنواعها، والتي أصبحت بحد ذاتها تغني عن الكثير من العمل الاستخباري على الأرض محليا وعالميا لأي دولة من الدول.

المعلومات هي نفط المستقبل، وقيمتها الهائلة بدأت تظهر اليوم، وهناك حرب حقيقية بدأت وستكبر تدريجيا اسمها "حرب المعلومات". قبل فترة بسيطة بدأت معركة الولايات المتحدة مع الصين بسبب اتهام شركة هواوي بالاستخدام الأمني للمعلومات، وستستمر هذه الحروب بين الدول وتتضخم بشكل سيؤثر على مستقبل العلاقات السياسية في العقود القادمة من الزمن.

تطبيق FaceApp يقع ضمن هذه المعادلة، فهو يجمع كمية هائلة من صور الوجوه، واتفاقية التطبيق المكتوبة بخط صغير جدا تعطي للتطبيق رخصة استخدام الصور بلا حدود جغرافيا وزمنيا وبأي شكل يرغب مالكوه، بل إن العبارة العامة للاتفاقية تتيح لهم جمع معلومات أخرى من الموبايل المستخدم للتطبيق واستخدامها بأي شكل يرغبونه.

ولكن لماذا يثير التطبيق الجديد الضجة بينما تجمع شركات Apple وFacebook وغيرها مثل هذه الصور عبر الشبكات الاجتماعية والأجهزة الذكية؟

السبب هو الاعتقاد السائد والصحيح ـ في رأيي ـ بأن شركات وادي السيليكون لديها كثير من المسؤولية الاجتماعية، وتخضع للرقابة من الحكومة والجمهور، وتحميها القوانين من الاستغلال السيء لها، بينما لا ينطبق الأمر نفسه على الشركات الروسية والصينية، بل إن هناك أدلة حاسمة بأن التطبيقات الذكية في روسيا والصين لا تستطيع رفض طلب حكومي لفتح باب خلفي للمعلومات التي تملكها عن مستخدميها.

هذا يشبه تماما الطريقة التي تعامل بها العالم مع الأسلحة النووية حين رفض وجودها لدى الحكومات التي لها تاريخ من عدم تحمل مسؤوليتها الدولية والتزامها بالقانون الدولي.

قد يتساءل البعض ماذا يمكن لروسيا فعله بكل هذه المعلومات التي يتم جمعها عبر التطبيق. تذكر دائما أن حجم التطوير المستقبلي لتطبيقات الذكاء الصناعي والتطبيقات المعتمدة على البيانات الضخمة كبيرة جدا، ولا يمكن تخيلها دائما. الروس بالذات يحيطون تطويرهم المستقبلي للذكاء الاصطناعي بسرية عالية ولهم تاريخ طويل في تطوير البرمجيات الخبيثة. حتى على مستوى التطبيقات، تكتشف دائما تطبيقات روسية مصممة للتجسس الممنوع على الأجهزة الذكية، حتى أن غوغل حذفت الأسبوع الماضي سبع تطبيقات روسية من متجرها لهذا السبب.

في سبتمبر 2017 قال الرئيس الروسي بوتين بأن من يملك تقنيات الذكاء الاصطناعي سيكون "حاكما للعالم". هذا التصريح، مع السرية العالية التي تنهجها روسيا في جهدها التقني، أعطى الانطباع للمحللين بأن الروس قد يريدون استخدام الذكاء الاصطناعي عسكريا واستخباريا وأمنيا، ورفع مستوى الحذر العالمي من البرمجيات الروسية عموما.

لكن طبعا لا شيء يؤكد أن هناك "نية سيئة" لدى الشركة التي تملك تطبيق FaceApp، وقد يكون الأمر مجرد تجريب مكثف للتطبيق للوصول لتقنية أعلى جودة في توقع الوجوه وتأثير مختلف العوامل عليها لبيعها بعد ذلك في عالم ينفق مئات الملايين كل عام على تطوير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.

في المستقبل قد تكون المعلومات الأداة الأفضل لمن يريد أن يسيطر علينا!

​​هناك في الحقيقة استخدام مثير لهذه المعلومات وهو "التعرف على الوجوه من خلال الذكاء الاصطناعي"، والذي تحول لصناعة قائمة بذاتها كبرمجيات وكقواعد معلومات. التعرف على الوجوه لا يعني فقط أن تتعرف عليك أي كاميرا تبحث عنك (وهو أمر يقلق بشأنه المطلوبون أو حين وقوعه في اليد الخطأ)، ولكن خطره أنه يستطيع أن يبني بروفايل متكامل عنك من خلال كل الصور الموجودة لك على الشبكات الاجتماعية وعلى يوتيوب وفي كاميرات المراقبة الموزعة في كل مكان، ويفهم مسيرة حياتك، ثم يحلل تصرفاتك وشخصيتك من خلال الذكاء الاصطناعي بشكل متقدم جدا يتفوق على قدرة الإنسان.

الاستخدامات لهذه التقنية كثيرة، فهي تساعد في فهم سلوكك في التسوق، وتساعد في تقييم الأطفال تعليميا، وتمكن الشركات من تحليل سلوك مراجعيها وموظفيها، بينما تستطيع المستشفيات أن تراقب مرضاها، ولها فوائدها في تطوير تقنيات الهوليغرام والصورة ثلاثية الأبعاد، وفي تطوير تقنيات إنترنت الأشياء، حين يعمل كل شيء من حولك عندما يتعرف على وجهك تماما مثل جهاز الأيفون حاليا، ولكنها أيضا تجعلك ـ للأسف ـ "فريسة سهلة" في يد خصمك عندما تقع في يده مثل هذه المعلومات.

حاليا، تجمع الشبكات الاجتماعية والتطبيقات معلوماتنا لبيعها لمن يريدون استهدافنا تسويقيا، ولكن في المستقبل قد تكون المعلومات الأداة الأفضل لمن يريد أن يسيطر علينا!

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.