تضع ورودا في وارسو في ذكرى الانتفاضة اليهودية الأكبر خلال الحرب العالمية الثانية
تضع ورودا في وارسو في ذكرى الانتفاضة اليهودية الأكبر خلال الحرب العالمية الثانية

حسن منيمنة/

قبل بضعة عقود، أثارت إحدى الباحثات الجامعيات في الولايات المتحدة جدلا إثر دراسة أعدتها خلاصتها أن فلسطين يوم جاء اليهود لاستيطانها، في أواخر القرن التاسع عشر، كانت خرابا مهجورا، لا يقطنها إلا بعض البدو الرحل وقلة من المعدمين في قرى متناثرة، وأن قدوم اليهود، بما أقاموه من دورة اقتصادية فاعلة، هو الذي نشّط الهجرة العربية الوافدة من الشام ومصر والحجاز. أي أن مقولة "أرض دون شعب لشعب دون أرض"، والتي كانت تلقى الرواج في بعض الأوساط الغربية هي رواية صادقة في صلبها، بل إن اليهود يلامون لأخلاقيتهم ومناقبيتهم إذ سمحوا لهذه الهجرة العربية المندفعة بأن تستوطن جوارهم، قبل أن تمسي، بفعل الجشع والتعبئة العقائدية، مسعى للاستيلاء على كامل البلاد وطردهم منها.

ومن أدلة هذه الباحثة على طرحها هذا أن العديد من الأسر العربية في فلسطين تتكنى بأسماء المدن والبلدات الواقعة خارجها، بل تعود بذاكرتها المباشرة إلى هذا الخارج. ثم أن كلمة "فلسطيني" حتى بعد استقرار الانتداب البريطاني، كانت تعني اليهودي، فيما تسمية الآخرين الذاتية كانت "العرب" والتي تجمعهم مع أقرانهم في المنطقة وتنفي خصوصية ارتباطهم بفلسطين.

هي قراءة أهوائية سطحية انتقائية تعسفية معرّضة للطعن والإسقاط من كافة جوانبها. وإذ تلقفتها بالاهتمام في يومها بعض الأوساط، بدوافع تتراوح من جدوى توظيفها السياسي إلى الحاجة إلى رواية تحافظ على الصورة الذاتية المبدئية والأخلاقية في الأوساط الساعية إلى التوفيق بين تأييدها لإسرائيل ومواقفها التقدمية، فإنها كانت لتوّ نشأتها فاقدة للصدقية في المحافل الجامعية والبحثية الجدية.

الذاكرة الجماعية اليهودية للقرون القليلة الماضية قائمة على ألم التشرّد

​​من حق الفلسطيني أن يشعر بالإهانة المتكالبة على كرامته في هذه القراءة التي تتجاهل الظلم الذي عاشه ولا يزال، من الطرد وخسارة الديار، إلى ذلّ المنفى والأذى المتواصل فيه بانتظار عودة تزداد استعصاء. بل ثمة من يستدعي هذه الرواية اليوم، وإن إيماء، عند الهامش، في إطار المقولة الواهية الداعية إلى فرض "انتصار" إسرائيلي.

لا بد من تثمين الشعور بالوجع والغيظ، والمصاحب لمتابعة تفاصيل هذه القراءة، والاحتفاظ به في صميم القلب لفهم تجاوزات مماثلة تقدم عليها الثقافة العربية، في بعضها الممانع وما يتعداه، إزاء الآخر.

الذاكرة الجماعية اليهودية للقرون القليلة الماضية، فيما يتعدى القصص الديني، قائمة على ألم التشرّد في بلاد قل أن شعرت فيها الجاليات اليهودية بالاطمئنان إلى سلامتها، وإلى حشر لها في أدوار اقتصادية واجتماعية تحتاجها الجماعات الغالبة وتنبذها في آن واحد، المالية منها (وخاصة الربا) والتجارية (بما في ذلك النخاسة) والمهنية (ومنها الطب وما كان عليه من مخاطر)، عادة ما يستتبعها، بعد انتفاء الحاجة، عدوان وتقتيل وطرد، وتكرار لألم الترحال. وإذا كان الهامش المتاح لهذه الجاليات التي تمرّست الإنتاج في الشظف قد اتسع في القرنين الماضيين، مع استتباب الحداثة، ليفتح أمامها أبواب الإبداع في مختلف المجالات، فإن هذا النجاح الظاهر قد لازمه ارتفاع في حدة التهجم عليها، وفي وتيرة ما كانت تشهده من مقاتل، وصولا إلى الفاجعة الكبرى عند المحاولة النازية لاستئصال الوجود اليهودي من كامل الفضاء الأوروبي من خلال فعل إبادة ممنهج.

التجربة التاريخية اليهودية ليست أحادية. والأصول العرقية والاجتماعية والثقافية للمجتمعات اليهودية عبر التاريخ ليست واحدة. غير أن المسارات المختلفة للجماعات اليهودية المتباعدة، على تعدد خلفياتها وانتماءاتها الحضارية، قد شهدت على مدى القرون الماضية مقادير متصاعدة من التقارب والتماهي وصولا إلى تشكل قناعة نقلتها بمجموعها من الأمة الدينية الاسمية إلى الأمة الافتراضية المتعاضدة، ليمسي معها التوالي المؤلف من مأساة اليهود في أوروبا وقيام دولة إسرائيل الحدث المؤسس للرؤية الذاتية اليهودية المستجدة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

نعم، ثمة ملامح دينية، وإن بنكهة حداثية، في هذا التوالي، وكأن في فعل الإبادة عقاب وفي فعل القيام ثواب، وثمة رمزية قوية متداخلة هنا. إذ كيف لا تكون المحرقة وبعث إسرائيل من رمادها فصولا جديدة تضاف إلى السردية العميقة التي يتصدرها الخروج إلى أرض الميعاد والسبي إلى بابل في نص التوراة. ثم كيف لا تكون العودة إلى أورشليم القدس، والتي كان الدعاء اليهودي على مدى القرون بأن تشل اليد اليمنى إن بدد ذكرها النسيان، إكمالا لدائرة ينتهي فيها الشتات ويجتمع فيها الجلاء.

وإذا كانت إسرائيل الجديدة، في فلسطين، تعاود تأصيل وجودها دينا ودنيا غرسا بالأرض من خلال تمجيد القيام، فإن "يهودا" الجديدة، هذا الشق الشقيق المغاير لإسرائيل الدولة والمجتمع، هذه الأمة الرديفة المنضوية في دولها في الغرب الحداثي، والمحافظة على هويتها وزخمها، دون تعارض في قناعتها بين الانتماء لذاتها المتجاوز للحدود والولاء للوطن الحاضن، قد ركنت إلى حدث الإبادة كمنطلق لهويتها، تعيشه وجلا وألما وإصرارا على القيامة، وتترجمه تقدمية ونصرة للمستضعفين وانفتاحا على الآخر.

التجاذبات لا تفارق هذه الحالة المتموجة، والتناقض بين مقتضيات إسرائيل و "يهودا"، ولا سيما في الشأن الفلسطيني، لم يحسم. في إسرائيل ألم من تاريخ ظالم واستقواء إزاء آخر استتب اليأس إزاء كسبه والتفاهم معه، وفي "يهودا" قلوب مدمية لذاكرة أقارب أبيدوا بعد إسقاط إنسانيتهم، وسعي إلى التعويض بمدّ اليد إلى الآخر على اختلافه.

فلنسترجع هنا الشعور بالوجع والغيظ إزاء إنكار الباحثة الجامعية لمأساة فلسطين، ولنضعه في سياق الواقعين في كل من إسرائيل و "يهودا" الجديدة. من حق الفلسطيني أن يشعر بالغبن والاعتداء على كرامته ساعة يهان ألمه ويستخف بمظلوميته. وكذلك حال الإسرائيلي واليهودي.

"بطل" الأمة العربية والإسلامية، في حربه الموعودة مع العدو الصهيوني الغاشم يعتذر لمقتل الأبرياء المدنيين من العرب، لا اليهود. الاحتفال والترحيب وفتاوى التأييد تصاحب مقتل الأبرياء من اليهود في مطاعمهم وشوارعهم وحافلاتهم. مؤتمرات "المراجعة التاريخية"، والتي تنكر فعل الإبادة، وترحب بأصحاب المقولات بأن "اليهود" يسيطرون على العالم، تقام في بيروت وطهران، لتمتزج خطابيات "قتلة الأنبياء" و "أحفاد القردة والخنازير" و "الصهيونية العالمية"، بما أبدعه التطرف الغربي من تصوير لأصالة الشرّ في "الأفعى اليهودية".

المعتاد هنا هو أن أية دعوة إلى تقدير ألم اليهودي والإسرائيلي تثير حفيظة الذين يرفضون الخروج من حصرية ذاتيتهم. "ماذا عن ...؟" هي اليافطة التي يشهرونها، وكأن المظلوميات كمّ محدود إذا استهلك جزء منه لطرف انتقص من حق أطراف أخرى.

دعكم من الـ "ماذا عن ...؟" لوهلة، فكافة ما تتخمكم به الثقافة الأحادية الممانعة هو ذاك الـ "ماذا عن ...؟". بل إحدى أولى العقبات لفضّ المسائل العالقة في المنطقة هو هذا الإسراف في إسقاط الآخر.

حتى أبطالكم في اليمن، في أقاصي جنوبي جزيرة العرب، (عسى أن يصلوا وسائر أهل اليمن إلى سلام يعفي عن هذه الربوع العزيزة ضريبة الدم دون الجدوى) يشهرون شعار "الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود". اللعنة على اليهود. في اليمن. ثم المفاجأة بأن "اليهود" لا يطمئنون إلى سلاحكم في إيران. "أنصار الله" اللاعنون هؤلاء يصرّحون حيث غالبكم تضمرون، بهيمنة الفكر اللاعن، المهين للتاريخ والمهين للآخر. بل هو الفكر الذي يحرم الفلسطيني من حقّه بالصلح مع ذاته وجاره، ويتيح المجال أمام الهواة للقدوم بصفقات لن تحقق إلا إطالة أمد الأزمة.

لن يفضّ الخلاف الفلسطيني الإسرائيلي بمجرد إزالة القراءات المتعسفة، ولكنه لن يفضّ إلا مع إزالتها

​​الجهد الذي يقوده صهر رئيس الولايات المتحدة في سعي مفترض للوصول إلى صفقة قرن، رغم أن معالمه بالكامل لم تتبين لاتخاذ موقف مؤصل منه غير قائم على الولاء الاستجدائي أو الإدانة الكاملة، يبدو بالتفاصيل المكشوفة للتوّ تسطيحيا جاهلا ومتجاهلا لحق الإنسان الفلسطيني بتاريخه وألمه وقراره، وإن سعى قاصرا مقصرا إلى زعم خلاف ذلك. أما الموقف الممانع، بل الموقف العام، إلا فيما ندر، في الإطار العربي، فهو أن أي اعتبار لتاريخ الإنسان الإسرائيلي واليهودي، وألمه وقراره، هو فعل "تصهين" وخيانة.

لن يفضّ الخلاف الفلسطيني الإسرائيلي بمجرد إزالة القراءات المتعسفة، ولكنه لن يفضّ إلا مع إزالتها. والمسؤولية الإسرائيلية في هذا الصدد كبيرة، والحاجة ماسة إلى توسيعها لإضافات من شأنها أن تكون مفيدة من الأوساط اليهودية في أنحاء العالم، ولا سيما الولايات المتحدة. ولا فائدة في التوسع بتفصيل هذه المسؤولية، بل على كل جهة الاستلحاق بما لديها. وبعيدا عن توجيه أصابع الاتهام إلى الآخر، ليت الجهد يكون عربيا بمراجعة ما على هذه الثقافة من تفنيد ذاتي وتزكية ذاتية ومراجعة ذاتية، لإنصاف كل من الذات والآخر.

اقرأ للكاتب أيضا: اصطفاف عالمي جديد في اختبار شينجيانغ

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.