المقبرة الجماعية المكتشفة في صحراء السماوة
المقبرة الجماعية المكتشفة في صحراء السماوة

حازم الأمين/

إلى كنعان مكية

استيقظ تيمور! الشخصية الواقعية في كتاب كنعان مكية "القسوة والصمت". إنه الناجي الذي كان من المفترض أن يكون واحدا ممن عُثر على رفاتهم في المقبرة الجماعية التي اكتشفت قبل أيام في صحراء السماوة في جنوب العراق. كنعان التقى تيمور في أواخر ثمانينيات القرن الفائت وسجل قصة نجاته، ومضى كل منهما في حاله.

لم نعرف كيف استقبل هذا الرجل استغاثات الضحايا قبل أن يطمرهم بالرمال

​​اليوم كشف النقاب عن المقبرة الجماعية. ويبدو أن تيمور كان دليل الفرق التي تقصت موقعها. الصور التي وزعت، تضم بالإضافة إلى الجماجم والعظام، ثيابا تثبت أن الضحايا هم كرد "مؤنفلين". ثمة ساعة يد معدنية لم يأكلها الصدأ! ربما علينا أن نبحث عن الشركة التي صنعتها، طالما أننا استعدنا وجه صاحبها الذي كانت بيده حين دفنه البعثيون حيا. حاولت تكبير صورتها لأعرف نوعها، ربما كانت "جوفيال" أو أنني توهمت ذلك لاعتقادي بأن ذلك الزمن كان زمن "جوفيال". ساعة اليد هذه بدت أكثر أغراض الضحايا علاقة بما جرى. الثياب الأخرى تآكلت، والعظام والجماجم أيضا.

الكشف عن المقبرة الجماعية بعد أكثر من ثلاثين عاما على تنفيذ المجزرة، يدفع إلى تفكير مختلف بدلالاتها. يجب أن نُقلع عن وهم مفاده أن صدام حسين ونظامه صاروا جزءا من الماضي. ساعة اليد المعدنية، التي لم يأكلها الصدأ هي دليل مبتذل وعادي على أن البعث ما زال حيا فينا، ليست بصفتها آلة قياس زمن لم ينقض، إنما بصفتها آلة استعادة طازجة لما جرى. لقد أقدم البعثيون على دفن الكرد وهم أحياء بحسب ما قال تيمور لكنعان. ألقوهم بحفرة في الصحراء، وجاءت الجرافات وطمرتهم بالرمال.

الرجل صاحب ساعة اليد مات بعد ثوان أو دقائق من دفنه في الحفرة. ساعة اليد استمرت تعمل ربما لسنة أو ربما لأكثر بعد موت صاحبها. في صحراء السماوة البعيدة عن بلاد الكرد أكثر من 500 ميلا، كانت ساعة رجل كردي، دفنه البعثيون حيا، مستمرة في تسجيل الدقائق والساعات والأيام وهي مدفونة بالرمال! متى توقفت عن تسجيل تقدم الوقت؟ من الصعب أن نعلم. هذا مشهد غير متخيل، والأرجح أن ابن صاحب الساعة، راح يسأل نفسه هذا السؤال بعد أن تحقق من أن هذه ساعة يد أبيه.

لم يكن إبعاد المقابر عن مدن وقرى ومنازل "المؤنفلين" فعلا عبثيا

​​صحراء السماوة شاسعة وفيها كثير من جثث الكرد. لكن فيها أيضا شيعة وكويتيين، أما لماذا اختارها البعثيون دون غيرها من المناطق الصحراوية الشاسعة في العراق، فهذا ما بدأ "علم تقصي المقابر الجماعية" برصده. لاختيار الموقع منطق بدأ العراقيون يعرفونه. يجب أن يكون موقع المقبرة بعيدا عن بلاد الضحايا. فمنع احتمال قيام علاقة عاطفية بين الجماعات وبين موقع المقبرة يقتضي اختيار مكان بعيد. ويبدو أيضا أن البعث كان يفكر في تصعيب مهمة الكرد في البحث عن قتلاهم، وهو اعتقد أن صحراء السماوة تبعد مسافة تكفي لجعل مهمة البحث مستحيلة. ومثلما تولت ساعة اليد وصل الزمنين، أي زمن ارتكاب الجريمة وزمن كشف مكانها، تولت أيضا إلغاء المسافة بين الضحايا وبين بلادهم. القوة المعدنية التي صمدت أمام الصدأ كل هذا الزمن، سيكون تأثيرها العاطفي أكثر قوة من تأثير ما تبقى من جثمان صاحبها. هي الأثر الكامل المتبقي من الضحية، وهي التي بقيت تنبض بعد أن توقف قلبه عن النبض.

زمن البعث لم ينقض، وعلينا أن نعد أنفسنا لمزيد من المقابر الجماعية

​​لم يكن إبعاد المقابر عن مدن وقرى ومنازل "المؤنفلين" فعلا عبثيا. البعث أقدم على ذلك بادراك ووعي، وهذا ما يدفع إلى مزيد من الخوف، ذاك أن "عقلانية" ما، كانت وراء هذه القسوة وهذا العنف. على المرء هنا أن يسأل نفسه، لماذا إذا تم دفنهم وهم أحياء، ما هي "العقلانية" من وراء عدم قتلهم قبل دفنهم. والسؤال الأشد قسوة: من هم الذين نفذوا بأيديهم تلك الجريمة، فنحن نعرف وجوها لقتلة، ونعرف سيرا لهؤلاء وسمعنا اعترافات كثيرة لهم، وكذلك قرأنا قصة تيمور، الناجي الوحيد من شفرة الجرافة، أما سيرة سائق الجرافة التي تولت دفع الرمال إلى حفرة صحراء السماوة فلم نقرأ عنها بعد، ولم نعرف كيف استقبل هذا الرجل استغاثات الضحايا قبل أن يطمرهم بالرمال.

زمن البعث لم ينقض، وعلينا أن نعد أنفسنا لمزيد من المقابر الجماعية. وبين البعث العراقي الذي تحول إلى "داعش"، والبعث السوري الذي افتتح زمنا لمقابر جماعية موازية تفوّق بها على نظيره العراقي، علينا أن نقر أن للمقبرة الجماعية هوية أهلية. فقد وجد صدام من يصفق له في سوريا، وفي المقابل لبشار الأسد مصفقون عراقيون أهلهم من نزلاء مقابر صدام.

لو كنت كرديا، لحملت ساعة يد والدي وغادرت هذه البلاد.

اقرأ للكاتب أيضا: عبقرية وزير العمل اللبناني

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.