متظاهرون أردنيون بالقرب من مقر رئيس الحكومة في عمان
متظاهرون في عمان (أرشيف)

نضال منصور/

مرت ذكرى 30 عاما على التحول الديمقراطي في الأردن بهدوء دون ضجيج وابتهاج، وعلى العكس تزايد القلق والتوتر والمخاوف من المستقبل، وما سمي بـ "هبة نيسان" عام 1989 التي بشرت بالديمقراطية، وألغت الأحكام العرفية لم تكمل طريقها، ولم تحقق أحلامها.

سألت رئيس الوزراء الأردني الدكتور عمر الرزاز في لقاء جمعه بالصحفيين؛ هل يُعقل بعد ثلاثة عقود على عودة الحياة الديمقراطية والسياسية ما زلنا نناقش قضايا أساسية مثل تشكيل الأحزاب السياسية ودورها، وضمان حرية التعبير والإعلام، وبناء الحكومات البرلمانية، والتوقف عن اعتقال الناس بسبب آرائهم؟!

ذكّرت الرئيس الرزاز أن التجربة الديمقراطية بالدول التي عُرفت بـ "أوروبا الشرقية" بدأت في ذات الوقت الذي نهضنا وخرجنا فيه من قوانين الطوارئ، فانظر أين وصلوا وأين نحن نقف الآن!

"هبة نيسان" التي بشّرت بالديمقراطية لم تكمل طريقها ولم تحقق أحلامها

​​الأمين العام السابق لحزب "جبهة العمل الإسلامي" زكي بن ارشيد وصف الحالة الراهنة خلال كلمة له في مؤتمر لمركز القدس للدراسات عن مآلات مسار الإصلاح السياسي "توقف مسار التحول الديمقراطي وعدنا إلى محطة الأحكام العرفية المتشحة بأشكال ومظاهر الديكور الديمقراطي".

كان عام 1989 عاما مفصليا في تاريخ الأردن مثلما كانت تجربة أول حكومة حزبية عام 1957 حالة فريدة جرى الانقلاب عليها ولم تتكرر. فقبل 30 عاما اندلعت "هبة نيسان" وعمّت احتجاجات شعبية إبان حكومة زيد الرفاعي، وتزامنت هذه التحولات مع انهيار الاتحاد السوفياتي، وسقوط جدار برلين، فأجبرت السلطة على احتواء الحراك الشعبي، وأدرك الملك الراحل الحسين خطورة المرحلة، فأطلق العنان لمرحلة جديدة من عمر الأردن السياسي كان عنوانها الأبرز وضع "ميثاق وطني" يعبّر عن القاسم المشترك لإرادة الأردنيين، وتوقهم للحرية.

مضت ثلاث عقود منذ إجراء الانتخابات الأكثر نزاهة عام 1989، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وإلغاء قانون "مقاومة الشيوعية"، وعودة الأحزاب للعمل العلني بعد سنوات طويلة من العمل السري.. والحال لم يتغير، والديمقراطية لم تترسخ، والبرلمان لا يحكم، والانتخابات يتلاعب بها وتزور أحيانا، وأصحاب المصالح والنفوذ تتوسع رقعة سيطرتهم على حساب العدالة وسيادة القانون.

كان يُفترض أن تتغير قواعد اللعبة السياسية، ويقطف الأردنيون ثمار نضالاتهم دولة ديمقراطية تقدم نموذجا مختلفا في بلاد العرب، فلماذا هذا التعثر والاستعصاء السياسي؟

كثر الجدل والنقاش حول معوقات المسار الديمقراطي، ولم تتردد حكومات من التلميح إلى أن الديمقراطية لا تليق بالشعب، أو أن الديمقراطية تحتاج تدرجا ونضجا وليس انقلابا بين ليلة وضحاها، وأن الأوان لم يحن لذلك.

بعيدا عن الدخان الذي تطلقه السلطة ويعيق الرؤية الحقيقة، فإن تغذية وتقوية البنى العشائرية في المجتمع باعتبارها بديلا ونقيضا للدولة المدنية ساهم في ضعف دولة القانون، وقلل من فرص بناء أحزاب سياسية فاعلة، فاستمر انضواء الناس تحت عباءة العشيرة التي توفر الحماية والوظيفة، وسلطتها عابرة للقانون والحكومات، وهربوا من الأحزاب التي تجلب الملاحقات الأمنية ولا توفر مستقبلا سياسيا أو وظيفيا.

استُخدمت القضية الفلسطينية كمشجب لتأجيل المسار الديمقراطي

​​استخدمت القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي كمشجب لتأجيل وتعليق "المسار الديمقراطي" سواء بسبب الهواجس الديموغرافية وفزاعة الخوف على الهوية الوطنية، أو بالتغني بشعار الأولوية للصمود والمواجهة وتوجيه الطاقات للصراع مع إسرائيل على حساب الديمقراطية. ورغم توقيع اتفاقية السلام فإن إسرائيل ظلت عاملا معطلا للبناء الديمقراطي، واستمرت الحكومات في استخدامها كذريعة للمماطلات والتسويف السياسي.

المشكلة ليست في إسرائيل، التي تتباهى أنها "الدولة الديمقراطية" الوحيدة في المنطقة، وإنما في الإقليم الطارد والمعادي للديمقراطية، فمهما تعددت أشكال السلطة السياسية في العالم العربي ـ جمهوريات أو ملكيات ـ وخاصة دول الجوار فإنها تمتلك "جينات" الاستبداد والاستئثار بالسلطة، والأخطر أنها لا تحكم قبضتها الديكتاتورية في حدود دولها، وإنما تقايض الدول المجاورة لها على تقليص هوامش الديمقراطية. وفي ظل هذا المناخ دفعت الديمقراطية الناشئة في الأردن فاتورة علاقتها وتشابك مصالحها مع دول الإقليم الأكثر قوة منها، وتعاظم هذا التأثير مع الانحسار والردة عن "الربيع العربي".

لم تكن العقود الثلاث منذ "هبة نيسان" مسارا واحدا صعودا أو هبوطا، بل معارك فيها مدّ وجزر، ففي السنوات الأولى قبيل توقيع اتفاقية السلام شهد الأردن انفراجا سياسيا، وصراعا سياسيا مبشرا، وبرلمانات قوية كبحت جماح السلطة التنفيذية، وأنتجت قوانين لبناء الديمقراطية، غير أنها تعرضت لضربات "تحت الحزام"، وأعيد تشكيل قانون الانتخاب ليفرز نوابا "فُصّلوا" على مقاس الحكومات، وتراجعت هوامش ومساحات العمل الديمقراطي مع تعاظم مخاطر الإرهاب لتفرض الأجندة الأمنية رؤيتها ومسارها لما يقرب العقدين، ولم تتوقف سلسلة الهزائم والانكسارات الديمقراطية إلا بعد إطلالة "الربيع العربي"، حيث عاد الحكم لاستدراك الخلل، وتنبأ مجددا بالمخاطر فأطلق سراح الديمقراطية المحتجزة.

حوار وطني وتعديلات دستورية هو ما تمخضت عنه موجة "الربيع العربي" في عمان. كان الرهان أن تعيد بناء المسار الديمقراطي الذي اندحر ولكن الموجة انكسرت وارتدت سريعا، وقامت السلطة باستعادة المكتسبات التي حققها الناس.

وفرت الأزمة الاقتصادية الطاحنة اليوم للحكومات ملاذا آمنا للتنصل من استحقاقات الإصلاح السياسي، وحرفت البوصلة للتأكيد على أولوية الإصلاح الاقتصادي على حساب المسار السياسي، وإقناع الناس أن الحصول على رغيف الخبز يتحقق بعيدا عن شعارات الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.

هذا النهج الذي ساد ساهم في وضع الملف الديمقراطي على الرف إلى حين، وساعد على التملص من الاستحقاقات الديمقراطية والحقوقية، وما عمق هذه الأزمة أن المجتمع الدولي لم يعد يمارس ضغطا على الأردن لإنفاذ التزاماته في ميدان الديمقراطية وحقوق الإنسان، ودخل في مقايضات مع الحكومات جعلت من قضايا الإرهاب واللاجئين ـ على سبيل المثال ـ أولوية متقدمة، وبالتالي طغت لغة المصالح والمنافع في العلاقات الدولية على المبادئ.

كان شكل السلطة في الإقليم فإنها تمتلك "جينات" الاستبداد والاستئثار بالحكم

​​لا يحتاج الأردن إلى ثلاثين عاما أخرى حتى ينهض بالمسار الديمقراطي، ولا يجوز أن يبق "مكانك سر"، وعليه أن يتوقف عن التمركز بالوسط فلا هو دولة ديكتاتورية ولا هو دولة ديمقراطية. ومصالح الأردن تقتضي، إن أراد أن يتحرر من أزمته ويخرج من "عنق الزجاجة"، أن يتخلى عن المنطقة الرمادية وترك سياسة الهوامش.

رواندا خرجت من حرب أهلية طاحنة واستطاعت في ربع قرن أن تبني مسارا ديمقراطيا يحقق نجاحات سياسية واقتصادية، وهذا يعني أن مفتاح الحل إرادة سياسية حاسمة وناجزة تؤمن أن الديمقراطية قدر لا مفر منه، وأن الولوج لهذا العالم يتطلب شجاعة الشراكة في السلطة لا الاستئثار بها، والتسليم أن التغلب على المشكلات مهما كان نوعها يكون بمزيد من الديمقراطية لا الاستبداد.

لا يستطيع الأردن أن يطرق باب عصر الذكاء الصناعي والروبوت والجيل الخامس بنظام "سلطوقراطي" ينحو للاستبداد ويتظاهر ويتغنى بالديمقراطية كلما احتاج وتطلب الأمر ذلك، فالديمقراطية لم تعد خيارا بل طريقا إجباريا للمستقبل، والتلاعب والحفاظ على "شعرة معاوية" مع المعارضة والشارع قد لا تنجح دائما، وليس صعبا على نظام الحكم تعبيد الطريق لعقد اجتماعي جديد يعيد فيه الاعتبار للديمقراطية بعد "موت سريري"، فهو قوي ويتمتع بشرعية شعبية، ولا يوجد بينه وبين شعبه دم، ولا يحتاج الأمر مصالحات بل ممارسات صادقة.

اقرأ للكاتب أيضا: حول نقاش سحب الأسلحة في الأردن

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.