حامد سنو، المغني الرئيسي في "مشروع ليلى" خلال مهرجان إهدنيات عام 2017
حامد سنو، المغني الرئيسي في فرقة "مشروع ليلى" خلال مهرجان إهدنيات عام 2017

فارس خشّان/

في الثاني عشر من يوليو الجاري، نشرت صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية تحقيقا عن "تحايل" المسيحيين اللبنانيين الذين يرغبون بالطلاق على المحاكم الروحية، بحيث يعمدون، ومن أجل تحقيق هذا الهدف إلى تغيير طوائفهم، ولو لمرحلة عابرة، من أجل أن يتمكنوا من الحصول على الطلاق.

وتضمن هذا التحقيق معطيات "مخجلة" تطال المحاكم الروحية والمحكومين باللجوء إليها.

ولكن، من دون أن ينكب المعنيون للرد على هذا التحقيق، بصورة أو بأخرى، كانت المفاجأة أن هجمة استعملت فيها مصطلحات التهديد الترهيبي، استهدفت فرقة فنيّة تطلق على نفسها اسم "مشروع ليلى"، بعدما أدرجت على قائمة "مهرجانات جبيل الدولية"، على اعتبار أنها تشجّع "المثلية الجنسية"، وتهين المقدسات المسيحية، وتسخر من العقيدة، سواء في أغنيتين أم في منشور على موقع فيسبوك أم في نوعية الجمهور.

حيّد القضاء نفسه، فلم يدافع عن حرية التعبير الفنّي في لبنان

​​وتحالفت المرجعيات الدينية المعنية مع القوى السياسية التي تحمل راية الدفاع عن حقوق المسيحيين، وأنشأت "محكمة تفتيش" استدعت إليها فرقة "مشروع ليلى" وألزمتها، في حال شاءت أن تبقي على حفلها الغنائي، بحذف الأغنيات "المسيئة" والمنشورات فيسبوكية "المهينة" والتوقف عن تشجيع "المثلية الجنسية"، وتقديم اعتذار علني.

وانقسم المجتمع اللبناني "المتكلّم" بين مؤيد للقمع وبين رافض له، فيما التزمت السلطة الصمت "السلبي" على اعتبار أن "أول حجر" إنما رماه هؤلاء المنتسبون إلى أحزاب لا تشارك في الحكومة، فحسب بل تشغل مقعد رئيس الجهورية، أيضا.

وحيّد القضاء نفسه، فلم يدافع عن حرية التعبير الفنّي في لبنان، طالما أنه لم يجد جريمة تستحق البحث القانوني، واضعا مصير "الفرقة الفنية" بعهدة المرجعية المسيحية التي برزت خصما لها.

هل تستدعي هذه المشهدية العجب؟

ببساطة، لا!

يحاول لبنان أن يقدّم لنفسه صورة لا تشبهه، فهو ليس بلد التسامح، بل بلد تتوزعه الطوائف التي تتصارع على مكتسبات السلطة.

وكل طائفة تسعى إلى فرض رؤيتها على المجتمع الذي يقع تحت قبضتها، وتجدها تتنافس، بالشروط نفسها، في ما بينها، من أجل إبراز عوامل القوة.

ومن أجل هذا الهدف، ترعى كل طائفة تناقضات خطرة في مجتمعها، فالهجوم على "فرقة ليلى" باسم "الضوابط الأخلاقية"، لا يراعي حقائق مسلكها، وثمة أمثلة كثيرة ومثيرة.

فالمثليون الجنسيون يحتلون مواقع متقدمة في كل المجالات (وهذا حق لهم)، وهم في الاحتفالات الدينية، يجلسون على المقاعد الأمامية وبعضهم يطل على القنوات الدينية ليقدّم سيرة حياته قدوة للآخرين.

والفضائح "البشعة" التي ارتكبتها شخصيات سياسية تتربع على مجالس مذهبية، لم تمنعها من إشغال مقاعد وزارية ونيابية باسم طائفتها.

والحكايات التي تروى في الكواليس عن تحالف رجال الدين مع رجال المال والسلطة، تمر مرور الكرام، على الرغم من أنها تكاد تنقل تجربة "آل بورجا" من القرن الخامس عشر الأوروبي إلى القرن الحادي والعشرين اللبناني.

والحملة التطهيرية من "المتحرشين جنسيا بالأطفال" التي تعيشها الكنائس، برعاية مباشرة من البابا فرنسيس، ممنوع وصولها إلى لبنان، على الرغم من الحاجة الملحة إلى ذلك.

فرقة "مشروع ليلى" بذاتها لا تعني شيئا للكثير من اللبنانيين، وثمة غالبية لم تكن قد سمعت بها سابقا أو لم تكن قد استمعت إلى واحدة من أغانيها، ولكن استهدافها للأسباب التي أعلن عنها، فتحت "صندوق باندورا" أو على الأقل جعلت البعض يتذكر نصيحة السيد المسيح التي دوّنها الإنجيلي متى: "لِماذا تَرَى القَشَّةَ فِي عَينِ أخِيكَ لَكِنَّكَ لا تُلاحِظُ الخَشَبَةَ الكَبِيْرَةَ فِي عَينِكَ أنتَ؟"

إن المجتمع اللبناني، في غالبيته، طائفي وتاليا يفرض شروطه على كل من يسعى إلى لعب دور في الحياة العامة أو أن يطل على العامة، إلا أن ذلك لا يعني عدم السماح للمتخلفين عن السير بهذا النهج بالتعبير، بالفن، عن ذاتهم وعن رفضهم وعن غضبهم وعن رؤيتهم، خصوصا وأنّ صوتهم لا يمكن أن يقارن بآلاف فرق الأناشيد الدينية في الكنائس والمدارس، وأن ما يصدحون به يستحيل أن يخرق أصوات المناهج الأكاديمية التي يضعها رجال الدين.

كل طائفة تسعى إلى فرض رؤيتها على المجتمع الذي يقع تحت قبضتها

​​في المقابل، لم تسجل سابقة، بيّنت أن أي عمل فنّي أجمع "الأخلاقيون" على وصفه بالهدام، قد قاد إلى حرب أو تسبب بارتكاب مجزرة أو حمى فاسدا من العقاب، في حين أن كل هذا يمكن وضعه في القائمة السوداء لأدعياء الدفاع عن الله وتعاليم رسله وأنبيائه. وعلى سبيل المثال لا الحصر، بطبيعة الحال، فإنّ ما سميّ بـ"حرب الأيقونات" بين المؤمنين بها وبين رافضيها، في القسطنطينية، قد أسقطت آلاف الضحايا من أبناء الدين الواحد والطائفة الواحدة.

إن الخوض في هذا الموضوع يتسع لآلاف الصفحات، ولكن بما أن المقالات لا تتسع إلا لمئات الكلمات، لا بد من لفت النظر في الختام، إلى أن تحالف رجال الدين والسلطة في أوروبا ضد الفقراء والصالحين والمبدعين والفنانين، هو الذي فتح الباب أمام "العلمنة" التي يشيطنها رجال الدين في الشرق عموما ولبنان خصوصا.

وإن أخذ طبيعة النظام الطائفي في الاعتبار لفهم ما يحصل في المجتمع اللبناني، لا يعني مطلقا السماح بالانقضاض على الفن الذي من طبيعته التمرد والخروج عن السائد، في وقت يتم التعاطي بإهمال هنا وبديهية هناك، مع التلوّث البيئي على كل مستوياته، ومع الفساد المالي على مختلف أوجهه، ومع الإرهاب ـ ولو لفظيا ـ إذا كان يناسب هدفنا.

اقرأ للكاتب أيضا: نواب الـ"هايد بارك" اللبناني

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.