سفينة الحفر التركية المدعوة "يافوز"
سفينة الحفر التركية المدعوة "يافوز"

سايمون هندرسون/

سبق أن نقلت الثروات الهيدروكربونية للأحواض الجيولوجية في النيل والمشرق الاقتصاد المصري نقلة نوعية ووسّعت نطاق خيارات إسرائيل المرتبطة بالطاقة، إلا أن لعبة السلطة الخطيرة التي يمارسها الجانب التركي تقوّض احتمال تمتع قبرص بحظ سعيد مشابه. فبعد عجز أنقرة كما يبدو عن العثور على النفط أو الغاز الطبيعي في مياهها في البحر الأبيض المتوسط، طالبت بحقوق لها في مناطق يعتبرها المجتمع الدولي جزءا من المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص. وقد تنجرّ إسرائيل ومصر إلى الدخول في الخلاف الدبلوماسي المتنامي، كما من المحتمل حدوث اشتباك عسكري مع تركيا.

وفقا لـ"اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار"، تمتد المياه الإقليمية لبلد ما 12 ميلا (19.3 كيلومترا) بحريا في البحر، إلا أن منطقته الاقتصادية الخالصة يمكن أن تمتد 200 ميل (321.8 كيلومتر) إضافي، حيث باستطاعته المطالبة بحقوق الصيد والتنقيب والحفر. وعندما تكون المسافة البحرية بين بلدين أقل من 424 ميلا (682.3 كيلومترا)، عليهما تحديد خط فاصل متّفق عليه بين منطقتيهما الاقتصاديتين الخالصتين.

يقوم الجيش التركي منذ سنوات بمضايقة جهود استكشاف النفط والغاز القبرصي

​​غير أن تركيا لم توقّع على "الاتفاقية" لأن هذه الوثيقة تمنح حقوقا ملحوظة إلى الأقاليم الجزرية. وبدلا من ذلك، تطالب أنقرة بحقوق استنادا إلى جرفها القاري، وهي وجهة نظر تحدّ بشدة من الحقوق القبرصية. وتتضح جيدا هذه الادعاءات المعادية، التي يعقّدها الانقسام المستمر في الجزيرة إلى كيانين قبرصي يوناني وقبرصي تركي، في خريطة وزارة الخارجية الأميركية بعنوان "البنية التحتية المختارة للطاقة في شرق البحر المتوسط". وباستثناء أنقرة، تعترف بقية [دول] العالَم بقبرص كدولة واحدة، مع تمتُّع الحكومة في نيقوسيا بالسيادة، إن لم تكن بالسيطرة، على جميع أراضيها.

وهذا الاعتراف يغضب تركيا، التي زادت بشكل منتظم من إثبات نفسها داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة للجزيرة. وحتى الآن قامت هذا العام بالأعمال التالية:

ـ أرسلت سفينة حفر للعمل على بُعد خمسة وخمسين ميلا (88.5 كيلومترا) غرب قبرص، أي داخل أعماق المنطقة الاقتصادية الخالصة المزعومة لنيقوسيا. وقد اشترت أنقرة السفينة في عام 2017، وأعادت طلاءها لتبدو كالعلم الوطني التركي، كما أعادت تسميتها "الفاتح" على اسم الفاتح العثماني لاسطنبول [السلطان محمد الفاتح] في القرن الخامس عشر.

ـ وكّلت سفينة مسح زلزالي بالتنقيب في منطقة تقع مباشرة جنوب قبرص، حيث سبق لحكومة نيقوسيا أن أعطت ترخيص لشركة النفط الإيطالية العملاقة "إيني". وأُعيد طلاء السفينة بشكل ساطع لتبدو كسفينة "فاتح" وسُمّيَت باسم الأميرال العثماني خير الدين بربروس باشا.

ـ أمرت سفينة الحفر ذات التصميم الخارجي المشابه أيضا والمدعوة "يافوز" (تعني "غير المرنة" أو "الحازمة") بالعمل في منطقة قبالة شبه جزيرة كارباس، وهي جزء من الجزيرة سمّته أنقرة بشكل أحادي "جمهورية شمال قبرص التركية" بعد غزوها للجزيرة في عام 1974 لمواجهة محاولة انقلاب مؤيدة لليونان في نيقوسيا.

وإلى جانب هذه التحركات، يقوم الجيش التركي منذ سنوات بمضايقة جهود استكشاف النفط والغاز القبرصي. وكان أسوأ حادث في آذار/مارس 2018، عندما أرغمت السفن الحربية التركية سفينة تعاقدت معها شركة "إيني" على التخلي عن محاولات الحفر في منطقة "المربع 3" ["بلوك 3"]، الذي يقع شرق الجزيرة وعلى مقربة من الحدود البحرية مع لبنان. وربما كانت أنقرة ترد على اكتشاف حقل "كاليبسو" للغاز، الذي تم الإعلان عنه في الشهر الذي سبق من قِبَل اتحاد يضم شركة "إيني" والشركة الفرنسية "توتال" في منطقة جنوب غرب قبرص. وتعتبر تركيا أن هذه المنطقة البحرية تابعة لمصر، على الرغم من أن اتفاقية الحدود البحرية التي أبرمتها القاهرة مع نيقوسيا تضع الحقل في "المربع 6" من "المنطقة الاقتصادية الخالصة" لقبرص.

ولم يرتفع سقف الرهان سوى في عام 2019:

ـ في فبراير، أعلنت شركة "إكسون موبيل" عن اكتشاف حقل "غلاوكوس" ("غلافكوس") في "المنطقة 10" من نيقوسيا جنوب كاليبسو، مما أنشأ رابطا أميركيا مباشرا مع هذه المسألة.

ـ تم اختيار مصر كمضيفة لـ "منتدى غاز شرق المتوسط" الجديد، وهو مجموعة تضم أيضا قبرص واليونان وإسرائيل وإيطاليا والأردن والسلطة الفلسطينية. ولم يتم شمل تركيا ولبنان.

ـ أفادت التقارير أن الولايات المتحدة قد سهّلت المفاوضات بشأن الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان. وإذا نجحت هذه المحادثات، باستطاعتها فتح المجال في المياه مقابل الساحل اللبناني أمام تنقيب النفط والغاز وتخفيف حدة التوترات بين بيروت وإسرائيل.

باستثناء أنقرة، تعترف بقية دول العالم بقبرص كدولة واحدة وهذا الاعتراف يغضب تركيا

​​ـ في وقت سابق من هذا الشهر، وافقت القاهرة على خط أنابيب تحت سطح البحر يمتد بين حقل الغاز الأول لقبرص "أفروديت" (الذي اكتُشف في عام 2011 ولكن لم يتم استغلاله بعد)، والمحطة المصرية لإسالة الغاز وتصديره في إدكو، قرب الإسكندرية. وتقود شركة "نوبل إنرجي" الواقعة في هيوستن الاتحاد الذي يملك رخصة الحقل، وهي تشغّل أيضا حقليْ الغاز الإسرائيلييْن "تامار" و"ليفيثان". وعندما تم اكتشاف حقل "أفروديت" لأول مرة، حلقت الطائرات النفّاثة الحربية التركية على مقربة من مروحيات الإمداد المنطلقة من إسرائيل. وتم لاحقا تحديد جزء من الحقل على أنه يمتد في المنطقة الاقتصادية الخالصة لإسرائيل، لذلك إذا كررت تركيا مثل هذه التكتيكات في الوقت الذي يبدأ فيه العمل على بدء الإنتاج في الحقل، فمن المرجح أن ترد إسرائيل بقوة.

ـ في 15 يوليو، وافق وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي على فرض عقوبات على تركيا بسبب أنشطة التنقيب "غير القانونية" التي تقوم بها قبالة ساحل قبرص، وهي دولة عضو في الاتحاد الأوروبي. ورغم أن العقوبات لم تكن حادة، إلا أن أنقرة ردّت بغضب وتعهدت بمواصلة الحفر. وفي 22 يوليو، بدا أن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو تراجع قليلا، إذ أشار إلى أن حكومته لن ترسل سفينة مسح زلزالي إضافية إلى المنطقة كما كان مخطط في الأصل. وبعد ذلك بيومين، أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان أن "التهديد بالعقوبات" ضد تركيا لن توقف أنشطتها المتعلقة باستثمار حقول الغاز [بالقرب من السواحل القبرصية]. وأضاف، "أن الخطوات الأخيرة التي اتخذناها أظهرت بوضوح حساسيتنا فيما يتعلق بحماية حقوق وقوانين ومصالح القبارصة الأتراك". وفي الوقت نفسه، اقترحت قيادة "جمهورية شمال قبرص التركية" [إقامة] لجنة مشتركة مع القبارصة اليونانيين لمناقشة تقاسم عائدات النفط والغاز، لكن نيقوسيا رفضت الفكرة.

وفي الواقع تعاني علاقات واشنطن مع أنقرة من الاضطرابات بعد تسليم الصواريخ الروسية "أس-400" وقرار وقف مشاركة تركيا في مشروع تطوير مقاتلات "أف-35". وقد تبدو التوترات في شرق البحر المتوسط صغيرة بالمقارنة، ولكن لا يمكن السماح بتفاقمها نظرا إلى احتمال التصعيد الخطير.

سايمون هندرسون هو زميل "بيكر" ومدير "برنامج برنستاين لشؤون الخليج وسياسة الطاقة" في معهد واشنطن.

المصدر: منتدى فكرة

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.