بطلة الفليم ليلى حاتمي
بطلة الفليم ليلى حاتمي

كوليت بهنا/

نجحت السينما الإيرانية أن تحتل مكانة عالمية وقيمة فنية لا يختلف اثنان على تميزها، سواء كانت الأفلام المنجزة لبعض السينمائيين داخل البلاد أو معارضين للنظام في الخارج. وحقق الاثنان، عبر الممكن والمتاح، تراكما سينمائيا ذا هوية إبداعية خاصة طُبِعت بأكثر من سمة، أبرزها موهبة التقاط أبسط الأفكار ومعالجتها بعمق وسلاسة، والرمزية التي تعتبر ملاذا لأغلب المبدعين في الدول ذات الأنظمة الاستبدادية، وهي أسلوبية تمنح المشاهد بذاته متعة فك الترميز وتفسيره، مما يغني الفيلم بعدد من الإحالات ووجهات النظر، كما يجنّب صاحبه بعض المحاسبة ويمنحه هامشا أكبر لطرح أخطر القضايا وأكثرها حساسية عبر المواربة وتدوير الرمز. قضايا لا تخرج في النهاية عن فلك "التابوهات" المعروفة، يتقدمها الهمّ السياسي كهاجس يرخي بظلاله على معظم هذه الأفلام، ويتمظهر غالبا عبر الدلالات الاجتماعية أو الفلسفية أو الدينية التي يتضمنها المسير الدرامي للفيلم وتصب في نهاية المطاف في بحر السياسة.

"كم الساعة في عالمك؟" فيلم جميل ومتفرد، يستعيد بعضا من دفء الزمن الإيراني الجميل

​​"كم الساعة في عالمك؟"، عنوان اختاره المخرج الإيراني "صافي يازدانيان" لفيلمه المنتج داخل ايران سنة 2014، هو الثاني من بين ثلاثة أفلام شكلت رصيده السينمائي حتى اليوم، وحاز به على الجائزة الذهبية لمهرجان جنيف الدولي العاشر للفيلم الشرقي 2015 مع إشادة خاصة من لجنة التحكيم. 

عنوان جميل وملفت ذو دلالات عميقة حُبك بحرفية مع نسيج الفيلم الذي يمكن وصفه بالبليغ والساحر، ووظّفَ الشاعرية الطاغية عليه بلغة سينمائية مختلفة تهيمن كالموسيقى على وجدان المشاهد وتجيش عواطفه إلى حد البكاء.

تتلخص حكاية الفيلم بعودة الشابة الأربعينية (غولي ـ النجمة الإيرانية ليلى حاتمي) إلى بيتها في ضواحي مدينة "رشت" ذات الطبيعة الخلابة في الشمال الإيراني الغربي بعد مرور عشرين عاما على تغير أحوال البلاد وحدوث الثورة ومغادرتها للدراسة واستقرارها في فرنسا، وبعد مضي خمس سنوات على وفاة أمها.

حال وصولها، واستقبالها المفاجئ من قبل (فرهاد ـ النجم والمخرج الإيراني علي مصطفى) صاحب محل إطارات الصور وصديق طفولتها، وصديق العائلة الذي اهتم بأمها خلال مرضها ووفاتها، تتكشف قصة حب حنونة غير معلنة من قبل "فرهاد" الذي يظهر سلوكيات عشق ستبدو غرائبية بالنسبة لشابة صارت غربية التفكير وتقيم علاقة عاطفية مع رجل فرنسي مسيحي (أنطوان). كما يتكشف الماضي الذي ما زال "فرهاد" ومعظم أهل البلدة يعيشون في إطاره كلوحة قديمة بهتت ألوانها لكنها ما زالت تحتفظ بقيمتها الجمالية.

ولولا أن الفيلم إيراني وناطق بلغتها، لاختلط الأمر على المشاهد لوهلة، وظن أن الأحداث تدور في واحدة من بلدات الريف الفرنسي بموسيقاها وأجوائها وبعض التفاصيل والإكسسوارات التي وُظّفت ضمن مشهدية دافئة رغم أجواء الصقيع ـ زمن الفيلم الشتوي، أراد "يازدانيان" من خلالها أن يوصل رسالته الواضحة إلى العالم الخارجي والمرتبطة بمفهوم الجمال، سواء ارتبط هذا الجمال بالزمن الماضي، أو جمال حيوات بعض من بقي أمينا وحافظا لأسرار هذا الجمال الإيراني العريق، الذي لم تشوهه لقطة ولو عابرة لصور أو ملصقات "ملالية" على جدار ما.

أشبع "يازدانيان فيلمه برموز مختلفة وغزيرة، أبرزها البيئة اللونية التي استعملها باعتماده على الإضاءة الطبيعية التي يعكسها الأبيض الساطع والشفيف القادم من "الخارج"، على الأبيض الساكن النقي في "الداخل"، المشابه لنقاء واستكانة قلوب بعض الأحياء المقيمين، وهما لونان عاد واستعملهما بشكل متعمد حين تقرر "غولي" اختيارهما لإعادة طلاء منزل والديها القديم، وتقرر أيضا، بعد صحوتها واكتشافها لنقاء المكان ـ الذاكرة ـ الحب التي ابتعدت عنهم لعشرين عاما، أن تنقيهم من شوائب الحاضر، وتكشط بيدها ما علق من الطلاء على بلور النوافذ.

ومثل أي عاشق للسينما وأدواتها المباشرة، يستعيد المخرج بعض الزمن الجميل عبر شرائط الأفلام القديمة التي تحتفظ بها العائلة وتدار بجهاز بكرات يتم إصلاحه لإلقاء نظرة على مقاطع حانية من ماضي أرواح عاشت في منزل أهل "غولي"، والذي تكشف شرائط هذه الأفلام، وبالاستعانة بأسلوبية مضافة للأحلام والرؤى، كم كان منزلا عامرا بالحياة الثقافية والفنية والسياسية، انطفأت حيويته بعد اعتقال والد "غولي"، السياسي القديم المخضرم مع حدوث الثورة، وبقاء الأم وحيدة مع حسرتها وسيارة " الشيفرولية" التي كانت تطلق عليها اسم "سيارة الاسعاف" لأنها كانت تقودها للذهاب إلى المستشفى في سنواتها الأخيرة.

من أبرز سمات السينما الإيرانية الرمزية التي تعتبر ملاذا لأغلب المبدعين في الدول ذات الأنظمة الاستبدادية

​​سيارة "الشيفرولية" الأميركية الزرقاء التي ما زالت تحتفظ بلمعانها وهيبتها رغم كل هذه السنوات، ستكتشفها "غولي" مركونة مثل كل الذكريات، فتعيد تحريكها وقيادتها، وتتوقف بها في مشهد حمل معه دلالاته السياسية، عند إشارة المرور، تراقب عبر زجاج نافذتها الأمامي، جموعا من المارة يقطعون الشارع، ينظر بعضهم للسيارة بعين الريبة، أو بنظرات عابرة وحيادية خالية من الحياة مثل "روبوتات" مسيّرة.

"كم الساعة في عالمك؟" فيلم جميل ومتفرد، يستعيد بعضا من دفء الزمن الإيراني الجميل المحفوظ بأمانة في ذاكرة العاشق "فرهاد"، اللاعب السياسي القديم والذي سينهار حبا وتعبا بعد جهوده المضنية للاحتفاظ بهذه الذاكرة، وليس مستغربا بعد كل ما تقدم، أن يمنع عرض هذا الفيلم في إيران، حتى اليوم.

اقرأ للكاتبة أيضا: روح المدن.. أسماء وعناوين

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.