تظاهرة أمام مقر الحكومة المحلية في البصرة اعتراضا على الفساد وسوء الخدمات العامة
تظاهرة أمام مقر الحكومة المحلية في البصرة اعتراضا على الفساد وسوء الخدمات العامة

إياد العنبر/

ما بين تبنّي تيار الحكمة خيار المعارضة السياسية، وخروجه بتظاهرات لم يستجب لها سوى المئات من أنصاره ـ على خلاف ترويجه لها بأنها ستكون "مليونية" ـ ورسالة رئيس مجلس الوزراء عادل عبد المهدي إلى السيد عمار الحكيم بخصوص التظاهرات التي ينظمها جمهور التيار، كنتُ أطالع آخر إصدارات المفكر المغربي عبدالإله بلقزيز: "نقد السياسة في أمراض العمل السياسي" (المركز الثقافي للكتاب 2019). وكذلك كتابه: "السلطة والمعارضة، المجال السياسي العربي المعاصر" (المركز العربي الثقافي للكتاب 2007).

يذهب بلقزيز في الكتابين إلى أن السياسة تعاني ـ من حيث هي فاعلية اجتماعية ـ من فقدان الأسباب التي تجعلها دينامية من ديناميات تطوُّر الاجتماع الوطني كما هو مُفترض فيها، وكما هو عليه أمرها في المجتمعات الحديثة والمتقدمة، بل هي تجد نفسها ـ لذلك السبب ـ فعلا ممتنعا في "أفضل" الأحوال، أو فعلا قتاليا دمويا في أسوأ الأحوال. ومن ثم، يرى بلقزيز بأننا مطالبون اليوم أكثر من أي وقت مضى بنقد السياسة لا نقد السلطة؛ إذ يقول "أمضينا زمنا طويلا لم نعرف فيه من نقد السياسة سوى نقد السلطة، أي نقد السياسة حين تمارسها نخبة حاكمة، فيما أشحنا النَّظر عن نقد سياسة القوى الاجتماعية والحزبية: المعارضة والموالية، وتجاهلنا الحاجة الحيوية إليه بما هو (النقد) إرادة تصويب وتصحيح وإعادة بناء".

أزمة السياسة في العراق جعلته يدور في حلقة من الدوائر المغلقة: الطائفية، القومية، القبلية، المناطقية

​​المقاربات التي يقدمها بلقزيز حول أزمة المجال السياسي، تنطبق تماما على العراق، إذ يقول: "حين نتأمل في صورة البنى السياسية العربية المعاصرة، التي يوازي غيابها في المجال السياسي حضور أشكال أخرى تمارس فيها السياسة على نحو لا تتحقق معه وظيفتها كدينامية للتطور، نكتشف أن المجال السياسي فيها لا يعدو أمْرُهُ أن يكون على أوجه ثلاثة: إما مجال منعدم انعداما تاما، أو مجال تقليدي، أو مجال "حديث" صوريا".

نقد العمل السياسي في العراق هو الخطوة الأولى نحو تشخيص الأزمات السياسية، إذ إن اختزال موضوع إصلاح النظام ومحاربة الفساد وتصحيح مسار عمل النظام السياسي، برفع شعار المعارضة هو نوع من المراوغة التي مكّنت الطبقة السياسية الحاكمة من تسويق مواقفها. 

منذ 2003 رسخت الطبقة السياسية سلوك وممارسة تقوم على أساس جمع التناقضات، إذ الجميع يتمتع بمغانم السلطة ومزايا الحكم، وفي الوقت ذاته الجميع ينتقد النظام السياسي ويلعن المحاصصة الطائفية ويدعو إلى محاربة الفساد. ولا يحتاج هذا التوصيف إلى دليل، إذ يكفي متابعة لقاء تلفزيوني لأي زعيم حزب أو مسؤول حكومي تنفيذي أو تشريعي لتجده يتحدث بهذه القضايا، وكأنما هو خارج منظومة العمل السياسي.

حتى التظاهرات وحركات الاحتجاج، والتي يفترض بها أن تعبّر عن الرأي العام، باتت تفقد معناها وانحرفت عن وظيفتها، وأمست تعبيرا عن وسائل العمل السياسي الشعبوي التي تحاول التيارات السياسية من خلالها استعراض قوتها بالشارع. وتظاهرات تيار الحكمة الأخيرة كانت تراهن على ذلك، بدلا من إثبات ذهابها للمعارضة داخل مؤسسة البرلمان. وحتى التيّار الصدري الذي كان يحشّد لتظاهرات مليونية، بات يواجه تحدي المصداقية أمام الشارع، ويثير التساؤل على من يتظاهرون؟ ونوابه الآن أكثر الكتل السياسية عددا داخل مجلس النواب.

العقل السياسي العراقي المأزوم بقضايا الماضي، لا يمكنه أن يقدم نموذجا سياسيا لبناء دولة المؤسسات الديمقراطية. فالسياسيون الشيعة لم يتجاوزوا بعد نمط التفكير بعلاقات المعارضة؛ لذلك عملوا على تقسيم مغانم الدولة لتوسيع دائرة نفوذهم وسلطتهم على حساب المنجز السياسي، والقوى السياسة السنية بسبب مقارنة وضعها الحالي بما قبل 2003 باتت تفكر بطريقة مأزومة للمشاركة بالحكم، وركيزتها الحفاظ على المناصب السياسية التي تحصل عليها. أما الساسة الكرد فلم يقدموا إلا نموذجا لسياسة الغنيمة، يمكن أن تحصل عليه الإقطاعيات العائلية الحاكمة في كردستان من موارد العراق، ويؤمن ترسيخ بقائها في حكم الإقليم، بالإضافة إلى العمل على إبقاء فكرة (أننا الضحية والآخر هو الجلاد).

النخب الاجتماعية بمختلف تصنيفاتها، ليست بريئة من أزمة السياسة بالعراق. فأغلبها تشارك في زيادة الأزمة تعقيدا، ولعلّ دعوة كثيرين منهم لمقاطعة انتخابات مايو 2018، كانت انعكاسا لحركة الاستلاب السياسي التي يشعرون بها، ولذلك كانوا منساقين وراء الإحباط من سوء الأداء السياسي، بدلا من أن يكونوا مؤثرين في توجيه الرأي العام نحو تصحيح مسار البناء الديمقراطي؛ بهدف تجاوز خطر فقدان الانتخابات لدورها في بناء المؤسسات الدستورية، رغم كل المعوقات التي تضعها الطبقة السياسية أمام تلك العملية. 

ومشكلة التفكير السياسي عند غالبية النخب، هي أنهم لم يخرجوا عن نمطَين: فإما أن يمارسوا الوصاية على إرادة الشعب، أو ينساقوا وراء الشعارات الدوغمائية. وهذه الأزمة في التفكير أنتجت ـ حسب وصف المفكر اللبناني علي حرب ـ أوهام النخبة، التي "يسعى المثقف من خلالها إلى تنصيب نفسه وصيا على الحرية والثورة أو قائدا للمجتمع والأمة. فبقدر ما اعتقد أنه يقود المجتمع تهمّش دوره".

نقد العمل السياسي في العراق هو الخطوة الأولى نحو تشخيص الأزمات السياسية

​​إذا، المشكلة واضحة المعالم على مستوى الوعي والممارسة السياسيتين، وهي نتاج لتراكم أزمة التفكير والعمل بالسياسة. فالأنظمة والأيديولوجيات الشمولية لا تسمح بتكوين مجال سياسي نابذ أو تنابذي ـ كما يصفه بلقزيز ـ فالغالب هو غياب هذا الفضاء العمومي لممارسة المنافسة السياسية والصراع الديمقراطي على كسب الرأي العام، وعلى المشاركة في صنع القرار وصياغة المستقبل والمصير. 

وأزمة السياسة في العراق جعلته يدور في حلقة من الدوائر المغلقة: الطائفية، القومية، القبلية، المناطقية. ومن ثم لم يعد العمل السياسي قادرا على إنتاج نظام سياسيّ يستجيب لمتطلبات الجمهور، بل باتت وظيفته الأساس هي خدمة الإقطاعيات السياسية، العائلية منها والحزبية.

وفي النتيجة لا يمكن التعويل على رفع شعار المعارضة بتصحيح مسار النظام السياسي، فما رسخته الطبقة السياسية من محاصصة حزبية بعناوين طائفية، وشخصنة المؤسسات السياسية، لا ينتج إلا انسدادا سياسيا، تكون أبرز مظاهره تشريع قانون انتخابات مجالس المحافظات الذي لم يأخذ بنظر الاعتبار عزوف الشارع عن المشاركة في الانتخابات الماضية، ولا يريد تصحيح مسار عمل مجالس المحافظات بما يتلاءم وتقديم خدمة للمواطن.

اقرأ للكاتب أيضا: ديمقراطية العراق بين زمنين

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.