ندرة نادرة من الناس تصنع التاريخ. أما أغلبية الناس، فالتاريخ يصنعهم. أفتت الوجودية بأن الإنسان حر، لكن جان بول سارتر أصر على ربط الحرية بالمسؤولية. بالتالي، أكدت الوجودية أهمية الالتزام، لأن الاختيار الحر يحرر الإنسان من تخطيط القدر، ويجعله عرضة للمحاسبة على قراراته.
بالمقابل، روجت نظريات أخرى متناقضة الاتجاهات والمسارات والأهداف لأن يصبح الإلزام بديلا عن الالتزام، أي أنها أملت واجب الطاعة العمياء لزعيم أوحد أو حزب حاكم أو رمز مقدس، لا تجوز معارضته أو محاسبته أبدا، وإلا وصم المعارضون بالخيانة، واستحقوا أقصى درجات العقاب.
في كثير من الأحيان، يبدأ بعض قادة الأحزاب الحاكمة متواضعين، يرغبون في صنع التاريخ بانعطافهم بعيدا عن سياسات أسلافهم، ساعين لأن يسجل المستقبل أسماءهم بعد الرحيل بأحرف من ذهب. المفاجئ أن بعض أولئك الزعماء ينساق تدريجيا لإغراء إحياء تاريخ قديم يكرس تقديس القائد الخالد إلى الأبد. كان أحد أبرز هذه الرموز في العصر الحديث التي حكمت أكثر من 42 سنة هو معمر القذافي، الذي هدد بملاحقة الثوار "زنقة.. ونقة"، فانتهى مقتولا بطريقة شنيعة.
لا بد لي أولا من الثناء على إبداعات عدة أدباء ليبيين أعتبرهم من أعمدة الثقافة العربية المعاصرة، ومنهم إبراهيم الكوني، أحمد إبراهيم الفقيه، خليفة التليسي ووفاء البوعيسي. لا بد من الإشادة أيضا ببعض من عرفتهم عن كثب من الدبلوماسيين الليبيين، الذين كانوا على درجة عالية من الحس القومي واللباقة الاجتماعية، مما جعل الحوار معهم بناء وودودا. دعي عديد من الأدباء العرب إلى ليبيا لتقريظ "الكتاب الأخضر"، الذي سمي "النظرية العالمية الثالثة،" وأشاد بعضهم عن حسن نية بالصراحة الصادقة أحيانا في كلام القذافي، الذي وصف بأنه "يفش القلب"، مغفلين أنه كان متناقضا مع المآسي الكامنة تحت سطح ممارسات اللجان الشعبية، المتسمة بقمع حرية التعبير، وسياسات التدخل ذي السمة الإرهابية في شؤون دول أخرى.
في جميع تصرفاته، كان القذافي يتسم بالطرافة والغرابة. مرة، كنا نراه ينصب خيمة هائلة في العواصم الأوروبية التي يزورها ويجلب الجمال إليها، ومرة يقحم ليبيا عسكريا في أوغندا وكأنه ملكها غير المتوج، ومرة يجيز تفجير طائرة ركاب أميركية فوق قرية "لوكربي" السكوتلندية، ومرة يمول أنشطة الجيش الجمهوري الآيرلندي، هكذا وصولا إلى فضائح أخلاقية استبدادية متعددة لم يكشف النقاب عنها إلا بعد سقوط القذافي، مما دفع الممثل ساشا بارون كوهن للتهكم عليه ببذاءة مقذعة في فيلم "الديكتاتور" (2012).
في عام 1974، قمت بزيارتي الوحيدة إلى ليبيا للمشاركة في "مهرجان الشباب العربي". ما إن حطت الطائرة بنا على أرض المطار، حتى أركبونا في حافلات كقطيع من الخراف، واقتادونا إلى معسكر يقع خارج العاصمة. كانت وسيلة النقل الوحيدة المتاحة هي الحافلات، التي لم يكن ممكنا التحرك خارج المعسكر بسواها. لذا، فرحنا فرحا شديدا عندما دعونا إلى جولة سياحية في أرجاء طرابلس. سرعان ما تغير الشعور من الدقائق الأولى إلى نقيضه، إذ انتصب مرافق بجانب السائق ممسكا بميكروفون، وأخذ يصدع رؤوسنا طوال وقت الرحلة الطويلة بخطبة عصماء عن إنجازات الأخ القائد الثورية.
ما لبث المرافق، بعد أن شعر بالملل يتزايد على وجوه الشباب العرب من مختلف الأقطار لدرجة تنذر بالانفجار، أن تنازل عن الميكروفون طوعا لزميلة ليبية، ووعدنا بأنها ستغني لنا أغنية جميلة. تنفسنا الصعداء لأن وصلة من الطرب لا بد ستخفف من عذابات الإنصات لخطابه الدعائي الصارخ. صدحت المرافقة بالغناء، فإذا بصوتها يخرش آذاننا بأغنية تمجد القائد الذي يتماهى الوطن مع شخصه.
وصلنا إلى طرابلس أخيرا، فطلبت وزميلي من السائق أن يفتح الباب وينزلنا لنقوم بجولة على راحتنا، ونعود بتكسي إلى المعسكر. رمقنا المرافق بنظرة لائمة كأننا نطقنا بكفر مبين، وقال: "ممنوع. لا يغادر أحد المعسكر ويعود إليه إلا بحافلاتنا الرسمية حصرا". حاولنا مجادلته، لكنه أوعز بصرامة إلى السائق ألا يفتح الباب، بل ينطلق في طريقه دون مبالاة بمشاعرنا. لأول مرة في حياتي، شعرت بأنني معتقل لا يملك من حريته شيئا.
انصعنا لأوامر المرافق على مضض، واكتفينا بأن تنقلنا الحافلات كل يوم إلى مباريات الفرق السورية في الملاعب، ثم تعيدنا في أوقات محددة. ذات مرة، بينما كان وفدنا يلج أحد الملاعب لحضور مباراة لفريق الفتيات السوريات، هجم بعض المنظمين ناهين الجميع بغلظة عن اختلاط الإناث بالذكور، وفصلوهن بالقوة عنا وأجلسوهن في مكان بعيد رغم محاولتنا اليائسة لأن نوضح لهم أن ذلك ليس من تقاليد بلدنا.
في ليلة الاحتفال بالفنون الشعبية السورية، آثرت أن أبتعد مع زميلين عن زميلاتنا من راقصات الدبكة والسماح تجنبا لوجع الرأس، واخترنا الجلوس في البلكون العلوي الفارغ نسبيا من الجمهور، في حين امتلأت الصالة إلى أقصاها.
ما أن مضى زمن قصير، حتى انضم إلينا وفد أميركي بنسائه ورجاله، وجلس في الصفين الأماميين أمامنا. بدأت الرقصات والأغاني الفولكلورية السورية تتالى على المسرح، فتلفتت بعض السيدات الأميركيات مناشدات أن يشرح أحد لهن ولعائلاتهن ما يشاهدون على خشبة المسرح. حثني الزميلان على التطوع لتلك المهمة نظراً لإتقاني اللغة الإنكليزية، بينما ألح أعضاء الوفد الأميركي رجالا ونساء أن أنتقل من مكاني لأجلس بينهم وأترجم لهم معاني الأغاني والرقصات الشعبية، فلبيت بكل سرور.
ما أن مضت بضع دقائق على شرحي لهم عن المحافظات التي تمثلها الأغاني والرقصات السورية المتنوعة، حتى انتصب فوق رأسي عنصر مخابرات ليبي أخذ يتوعدني بالاعتقال إذا لم أغادر مكاني فورا وأبتعد عن الأجانب. لم أحرك ساكنا، ليس بسبب الشجاعة، بل لأن الموقف عقد لساني، فجمدت في مقعدي من الدهشة. تأملته ببرود تام وهو يلوح بذراعيه، ورذاذ بصاقه يتطاير فوق رؤوسنا جميعا، وهو يهددني بالانتقام مني واعتقالي مباشرة عقب انتهاء الحفل السوري.
حاول زميلاي التدخل متوسطين، فنهرهما بعنف وشراسة. همست لي السيدة الأميركية التي كنت أجلس بجوارها ألا أكترث لتهديده وأتابع الشرح، لأنني لم أرتكب أي ذنب. تابعت الترجمة، فانتفض المخبر غاضبا واختفى كأنه فص ملح وذاب.
أعترف أن قلبي أخذ يخفق بشدة حتى شعرت أن سيقفز خارج صدري، لأن المخبر إذا جلب عناصره واعتقلني، لن يستطيع أحد منعه ولن يُعرف مكاني قبل أن ألقى صنوفا من المهانة والعذاب، هذا إذا بقيت حيا.
خرجت من المسرح بعد انتهاء العرض متوجسا، وأحاط كل من زميلي بي من الجانبين كأنهما "بودي غاردز". لحسن الحظ ـ يبدو أن المخبر ورفاقه أضاعونا وسط الزحام، فعدنا سالمين لنأوي إلى معسكرنا النائي، لكنني قضيت تلك الليلة والكوابيس تداهمني عن خفافيش الظلام وهي تخطفني وتودعني قبوا لا يرى الشمس.
في صباح اليوم التالي، زف المرافقون لجميع الشباب العرب في المعسكر نبأ قيامنا برحلة إلى الطبيعة، حيث سيأتي القائد القذافي شخصيا لتحية الوفود المشاركة. بالفعل، انطلقت بنا الحافلات في الموعد المحدد، وعاد المرافق ليصدع رؤوسنا بخطاب حول إنجازات الثورة طيلة الطريق. أخيرا، أنزلتنا الحافلات في غابة، وقيل لنا إن طعام الغداء سيصلنا بعد قليل، ثم يتلو ذلك زيارة الأخ القائد. تسكعنا على أقدامنا زهاء ساعتين في العراء والحر الشديد. هب غبار شديد تضافر مع الحر الشديد في جعل رحلتنا تزداد معاناة.
أخيرا، وصل الغداء، فإذا به عبارة عن "قصعات" قوامها الأساسي مرقٌ باللحم. جلسنا القرفصاء في حلقات على التراب، وأخذ الغبار المتطاير يشكل طبقة على سطح غدائنا. دفعنا الجوع لالتهام ما نسد به رمقنا بعد طول انتظار، فإذا بالطعام مشبع بالبهارات الحارة. نهضنا باحثين بلهفة عن شربة ماء نطفئ بها لهيب التوابل، فلم نجد للماء أثرا، إذ لم يفكر المرافقون بإحضار ما يطفئ عطشنا. ظللنا ننتظر زيارة قائد البلاد للترحيب بنا، وفجأة دعانا المرافقون للصعود إلى الحافلات من أجل العودة إلى المعسكر. تساءلنا: "ولكن أين القائد القذافي؟ ألا يجدر بنا انتظاره؟" أجابونا: "جاء بطائرة هيلوكوبتر وذهب. ألم تشعروا بالغبار؟".