من تحركات العسكريين المتقاعدين في وسط بيروت
من تحركات العسكريين المتقاعدين في وسط بيروت

منى فياض/

أحد أشهر الحلاقين في لبنان، ويملك فروعا في عدة بلدان عربية، غير معتاد على التحدث في الشؤون السياسية، لكنه سألني متعجبا: ما الذي تفعلينه هنا؟ (شو بعدك عمتعملي هون؟)، لشدة قرفه مما يحدث في لبنان.

أثناء جلسة مجلس النواب لإقرار بنود الموازنة العامة، حيث تبارى "ممثلونا" في مسابقة "هايد بارك" كلامية، وكشفوا المستور عن الفساد والهدر والتعدي على القوانين وهي تلت كباشا شهدته الحكومة، وكان ظاهره الإصلاح وباطنه المحاصصة؛ قصدت وسط بيروت سيرا، وفوجئت بأعداد الجنود التي تزداد على طول الطريق المؤدية إلى محيط البرلمان. في طريق عودتي كانت تجمعات المتظاهرين من المتقاعدين العسكريين قد بدأت بالتوافد بأعداد كبيرة. ثم حصلت مناوشات بينهم وبين العسكر المكلف بحماية مداخل ساحة النجمة.

لبنان يبدو أقرب ما يكون إلى نقطة الانفجار؛ لأن المواطن مهان، مجروح الكرامة وغاضب

​​كلمات وأوضاع بعض العسكريين حركت مشاعر الحزن والتعاطف. شعروا بالغبن والإهانة والغضب. فالموازنة لم تمس أيا من أبواب الهدر المشرعة ولا خفضت الإنفاق، سوى التمرين الذي أريد به "الاقتصاص التحذيري" من الرئيس سعد الحريري عبر المس بالمؤسسات الخاضعة لسلطة رئيس الحكومة المباشرة!

في عمليتها "الإصلاحية" لم تجد الحكومة سوى جيوب المواطنين من الطبقات الفقيرة والمتوسطة؛ فمن الألف ليرة على النرجلية، إلى تخفيض بدل وجبة العسكري الذي ينفذ مهمة ميدانية من 5 آلاف ليرة إلى 3 آلاف ونصف، واقتطاع 3 في المئة من ضمانه الصحي ـ تم التراجع عن بعضها ـ إلى ما هنالك. طالت ذات السياسة جميع القطاعات الأخرى. تم تطبيق زيادة ضريبية بلغت 3 في المئة على مئات السلع المستوردة. ما يعنى رفع الضريبة على القيمة المضافة بشكل مقنع. ما يزيد الطين بلة، أن كل ذلك قد يؤدي إلى انكماش اقتصادي وقد يشعل الأسعار في ظل رقابة شبه غائبة. فهناك 120 مراقبا اقتصاديا فقط لتغطية كل لبنان!

ناهيك عن أن الزيادة الضريبية ستضاعف التهريب من 136 معبرا غير قانوني على الحدود، معروفة ولا قرار سياسي بإقفالها للأسباب المعلومة. عدا التهريب من المعابر الشرعية باعتراف المسؤولين.

كان يكفي تطبيق القوانين ومنع التهرب الضريبي مع قانون ضريبي تصاعدي وضبط المعابر الشرعية وغير الشرعية ومنع التهريب وخفض الإنفاق والهدر المعلنين، وأهمها "بالوعة الكهرباء" التي تحصل على ما يقارب ملياري دولار سنويا "كسلفة!".

يعلم الجميع أنها مسرحية، إلى درجة أن النائب سليم سعادة أعلن ذلك في الجلسة البرلمانية بصراحة: "من جهة سيدر لا ينشغل بالكم، صحيح أنهم وضعوا علينا شروطا، وهم يعرفون أننا نكذب عليهم، ونحن نعرف أنهم يعرفون أننا نكذب عليهم، فما ما فيه مشكلة من الأساس. هذه الحقيقة". وضحك الجميع مسرورين.

هذا نموذج عما يجري في لبنان. الحكم والحكومة في فضاء، والشعب في فضاء آخر. وكل الأمور مكشوفة علنا، فيما تستكمل مسيرة التردي المتفاقم لنوعية الحياة. تردي البيئة وتلوثها بالمفهوم الشامل أو ما نسميه في علم النفس تردي الصحة الذهنية. أي ما يطال البشر والحجر والاقتصاد والاجتماع والسياسة، ناهيك عن الصحة الجسدية والعقلية والنفسية للمواطن.

هذا ما يجعل كثيرين يتساءلون: هل يمكن أن يؤدي ذلك إلى الانفجار وقيام انتفاضة على غرار ما حصل في 2005 أو ما يحصل في السودان والجزائر؟ اللهم إلا إذا قرر طرف داخلي أو خارجي تحويلها نحو العنف.

يعتقد البعض أن ذلك مستبعد في لبنان، بسبب حرية التعبير الكبيرة المتاحة والتي تتولى تنفيس الاحتقان، على غرار ما تفعل "السوباب" في طنجرة الضغط. إلى جانب أن جزءا كبيرا الشعب اللبناني مستفيد من الوضع السائد بسبب تحول النظام اللبناني إلى نظام ريعي بواسطة توسيع شبكة الزبائنية. فحسب "الدولية للمعلومات" يبلغ عدد موظفي القطاع العام 300,000، وهي من أعلى نسب القطاعات العامة نظرا لعدد السكان. ويستفيد هؤلاء من 36 في المئة من موازنة الدولة بحسب التقديرات.

هذا مع العلم أن العديد من الأجهزة الرسمية معطلة بسبب شغور الوظائف فيها؛ بينما أجهزة أخرى متخمة بحيث لا يقوم الموظف أو الأجير بأي عمل.

من الموانع أيضا أن التحركات المطلبية برهنت أنها تنقسم على نفسها، فإما تتبع ولاءاتها السياسية أو ينطبق عليها المثل "أنا أو لا أحد". ما يقضي على فرصة التنسيق بينها أو الاتحاد لتشكيل قوة ضاغطة. كل ذلك في ظل ضعف الاتحادات النقابية.

لكن في المقابل، هناك ثقل الأزمة الاقتصادية والشعور المتصاعد بالغضب الذي نلمسه عموما أينما توجهنا.

كثيرة هي التحليلات المتعلقة بالانفجارات التي تحصل فجأة؛ وسبق أن أشرت في مقالات سابقة عن الثورات وآلية انفجارها، إلى وجود نقطة حرجة يتسبب الوصول إليها بالانفجار الشعبي، مستعينة باستنطاق عدد من العلوم في الوقت نفسه.

تستكمل مسيرة التردي المتفاقم لنوعية الحياة في لبنان

​​في تجربة شهيرة في الفيزياء، توضع شاشة مثقوبة بفتحتين بين صحيفة فوتوغرافية ومصدر إنارة يسمح بإرسال فوتونات ضوئية واحدة واحدة نحو الشاشة. عندما تُعكس الفوتونات نحو الثقوب من المستحيل معرفة أي ثقب سوف تقطع هذه القسيمة ولا أين سوف تحط تماما. إن حركة الفوتون من وجهة النظر هذه تبدو صدفوية وغير متوقعة. لكن بعد إرسال حوالي الألف منها يُلاحظ أنها لا تترك بقعة صدفوية على الصفيحة الفوتوغرافية، بل تشكل صورة منظمة تماما. من هنا الاستنتاج أن الطابع الصدفوي لكل قسيمة معزولة يخبئ بالفعل درجة تنظيم عالية لا يمكن تفسيرها. يبدو الأمر كأن هناك "جاذبا غريبا" ينظم السلوك بعمق. اتفق الفيزيائيون على وجود ثابت كوني إضافي هو التواقت المتزامن (Synchronicity) كمكمل لمبدأ السببية. في عالم الفيزياء يبدو كل جزيء كأنه يعرف تماما ما سوف تفعله الجزيئات الأخرى في الوقت ذاته، مع أنها بعيدة عنه بشكل عياني.

إذا أردنا الاستعانة بالفيزياء لتفسير سيكولوجية السلوك الإنساني فنطبق قانون التواقت المتزامن على مفهوم اللاوعي الجماعي الذي أدخله يونغ، من ناحية، وسيكولوجية الحشود التي وسّعها غوستاف لوبون، يمكننا فهم بعض ما يجري في لبنان والعالم العربي. فنحن لا نتوقع سلوك الأفراد أو المجتمعات كل على حدة، لكن يبدو أن هناك تراكما سببيا يطلق وعيا داخليا ومحرّكا قويا يفجرها.

ولبنان يبدو أقرب ما يكون إلى نقطة الانفجار؛ لأن المواطن مهان، مجروح الكرامة وغاضب.

اقرأ للكاتبة أيضا: لبنان نصرالله: أشلاء وطن مخدوع

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.