كردية سورية ترتدي زيا تقليديا خلال مهرجان في أحد شوارع بلدة رميلة في الشمال السوري
كردية سورية ترتدي زيا تقليديا خلال مهرجان في أحد شوارع بلدة رميلة في الشمال السوري

رستم محمود/

حتى قبل سنوات قليلة، لم يكن الأكراد السوريون مرئيين بالنسبة للآخرين أو لأبناء بلدهم سوريا، الذين ما تحولت قضية الكُرد السوريين السياسية والثقافية والاقتصادية يوما إلى ملف ذو شأن بالنسبة لهم، بل كانوا يستشعرون ثقلا ما حينما يدفع كُردي ما بقضيته في مجالسهم العامة. لم يكونوا مرئيين أيضا بالنسبة للتشكيلات والقوى الكُردية المركزية الرئيسية في باقي الدول، الذين كانوا يعتبرون كُرد سوريا "أخا صغيرا"، ذو مسألة مؤجلة إلى حين بعيد، حتى يحقق باقي الأخوة مسألتهم مع دولهم. وطبعا لم تكن القوى الإقليمية والدولية تجد وقتا ومناسبة للتفكير بهذه الجماعة القومية والسياسي، الصغيرة حجما ودورا.

♦♦♦

فجأة، ولأسباب مركبة تتعلق بديناميكيات الثورة السورية ومحاربة الإرهاب وتحول منطقة شمال سوريا إلى مركز للصراعات الإقليمية وحتى الدولية، ظهر هؤلاء الكُرد السوريون إلى ما يُمكن تسميته بـ"صفحة التاريخ". صارت أسماؤهم وقضاياهم ودورهم وفاعليتهم محل تداول ما من جميع هذه القوى، الداخلية السورية والكُردية الإقليمية، وحتى الفاعلين الإقليميين والدوليين. اكتشف هؤلاء، الذين لم يكن الكُرد السوريون يوما جزء من أي من حساباتهم، بأن هذه الجماعة تمتلك ديناميكيات تنظيمية داخلية، قوى سياسية فاعلة وخطاب جمعي مؤثر، وأن لها، إلى جانب المطالب السورية الكُلية بالحرية والعدالة، تطلعات بمنطقة حكم ذات هوية خاصة، وميل شديد لتكريس هويتها ولغتها وشخصيتها في الذات السورية، عبر إقرار دستوري واعتراف سياسي واضح المعالم.

ثمة حزب جمهوري للكُرد السوريين ولا جمهورية لديهم

​​ملثما كان الكُرد السوريون غير مرئيين تماما طوال عقود صبغت كامل عمر الكيان السوري، فإنهم صاروا خلال السنوات الخمسة الأخيرة شديدي البريق. فتلك الجماعة التي ما كان يحسب لها أي حضور، صارت محل صراع استقطابي. كُردي ـ كُردي بين الأحزاب الكُردية التاريخية التقليدية المركزية، بالذات بين الديمقراطي والعمال الكُردستاني. وفي الداخل السوري لم يوفر النظام السوري ولا قوى المعارضة اللعب على ملفات الكُرد السوريين وحساسياتهم وخلافاتهم. المذهل أن هذه الجماعة المتواضعة بحجمها الديموغرافي صارت حتى محل مناوشة سياسية إقليمية ما تزال حامية، بين تركيا وإيران والعراق ودول الخليج العربي، وكذلك بين القوى الدولية، الولايات المتحدة والدول الأوربية من طرف، وروسيا من طرف آخر.

♦♦♦

كان لهذا التحول أن يغدو مناسبة استثنائية ليحقق فيه الكُرد السوريون منجزا كبيرا لصالح قضيتهم وحقوقهم العادلة، في الاعتراف والحضور في صفحة التاريخ هذه. لولا أن القوى السياسية "النخبوية" ضمن هذه الجماعية قد أصيبت بنفس الداء الذي أوهن أجساد جميع القوى والنُخب التي كانت قضايا جماعاتها محل استقطاب وفاعلية في لحظة ما من تاريخ. كان الفلسطينيون مثالا نموذجيا عن ذلك المرض، الذي يتجسد بأكثر من شكل وديناميكية، من احتكار وصراع داخلي مرير واستقطاب للقوى والدول الإقليمية، تطيح في المحصلة بما يمكن أن يتحقق للجماعة التي تمثلها هذه القوى السياسية.

ظهر للكُرد السوريين حزب يستميت في احتكار كل شيء، يسعى لأن يلتهم السياسة والاقتصاد والمتن العام وحتى العوالم الرمزية. هذا الحزب وتياره السياسي يسعى منذ سنوات لأن يمحق الذاكرة الجمعية السياسية والثقافية والاجتماعية لملايين الناس، أن يُجبرهم على الإيمان بأن مسألتهم وقضيتهم ما كانت موجودة قط قبل أن ينبت هذا الحزب في أوساطهم. بالتالي أن يحتكر حُرية التصرف بحاضرهم ومستقبلهم، مواردهم وتمثيلهم السياسي. مستخدما في ذلك ترسانة من الخطابات المُتشنجة والسطوة القاسية.

يوجد أكثر من خمسة أحزاب كردية يسارية وليس من أعضائها عامل واحد

​​في سبيل ذلك، لا مشكلة لدى هذا الحزب أن يُقلل من قدر الآخرين وفاعليتهم، حتى أن يُخوّنهم ويعتبرهم ضالين. يستطيع ويقبل هذا الحزب أن يدخل في جولات من التفاوض والتواطؤ ومبادلة المصالح والمنافع مع كامل طيف الفاعلين الآخرين، من القوى غير الكُردية في منطقة حُكمه، مرورا بقوى المعارضة السورية وحتى النظام السوري، حتى مع تركيا نفسها. لكنه يأبه بأن يُعطي أي بالٍ أو قيمة أو معنى لذويه من القوى الكُردية، فهؤلاء غير مرئيين بالنسبة له، بالضبط كما كان هذا الحزب وغير من الكُرد السوريين غير مرئيين بالنسبة للآخرين، قبل سنوات قليلة. لكنها ذاكرة السمك، شقيقة هذا الداء.

أوليس في ذلك شيء كثير مما فعلته القوى السياسية في اليمن وجنوب السودان وليبيا وغيرها من النماذج، وكان الفلسطينيون الأمثولة المركزية لهم جميعا. إذ دائما ثمة قوة سياسية ما، تطمح لأن تستحوذ على كُل شيء، حتى قبل أن يُصبح أي شيء من هذه الأشياء حقيقيا، وحتى لو كان طموحها ذاك بوابة لأن يُطاح بكل شيء.

♦♦♦

على الدفة النظيرة لذلك الحزب الاستحواذي، ثمة كتلة من الأحزاب والقوى السياسية الكُردي السورية، تتشظى يوما بعد آخر عن بعضها البعض، يقال إن عددها يصل إلى عشرات الأحزاب (على الأقل 36 حزبا)، لا يجمعها ولا تُعبر عن نفسها بشيء إلا برفض هذا الحزب المستحوذ على كل شيء.

هل من تراجيديا أكثر من أن يكون لقضية بالغة الوضوح والبساطة، مثل القضية الكُردية في سوريا، أكثر من سبعين حزبا؟! أحزاب ذات سمات عائلية وشخصية، غارقة في الخلافات الذاتية عديمة الجدوى والمعنى، لا تملك حصافة الحد الأدنى من إدراك الأصول التنظيمية والسياسية لأي تشكيل مُجتمعي، مُنقطعة تماما عن تحولات وأسئلة حركة التاريخ، السياسية والثقافية والفكرية. هل من أذى ومحق لقضية شعب ما مثل ما تفعله هذه التنظيمات الخُلبية وتوهم مجتمعاتها بأنها تفعل شيئا ما لأجلها؟!

في أوج مُعاناتهم مع الأنظمة التسلطية العروبية الحاكمة لسوريا، في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم، كان للكُرد السوريين ثلاثة أحزاب سياسية فحسب، لكل منهم شخصية وهوية وخطاب سياسي متمايز، متطابق مع واحد أو آخر من طبقات المجتمع الكُردي السوري ومصالحه وتطلعاته، وكانوا بالرغم من قلتهم إصبعا في حلق تلك الأنظمة، وممثلين حقيقيين لتطلعات ذويهم.

اليوم ثمة حزب جمهوري للكُرد السوريين ولا جمهورية لديهم، حزب آخر للخُضر ولا بيئة في مخيمات البؤس التي ينتشرون فيها، أكثر من خمسة أحزاب يسارية وليس من أعضائها عامل واحد، إلى جانب عشرة أحزاب تحت تسمية "حزب الوحدة"، انشقت كلها عن بعضها البعض، وعشرة أخرى "ديمقراطية"، وليس بها أية عملية انتخاب حقيقية. مع أحزاب تعود أسمائها إلى أدبيات النزعات الفاشية في أول القرن المنصرم، مثل أحزاب الحق والحقيقة والوحدة القومية.

ثمة كتلة من الأحزاب والقوى السياسية الكُردي السورية، تتشظى يوما بعد آخر عن بعضها البعض

​​جميع هذه التنظيمات ليس لها موقع إلكتروني إخباري واحد ذو محتوى، ولا تصدر عنها أية دوريات إعلامية وثقافية وفكرية ذات جاذبية للشبان الكُرد، ولا تمارس أية حيوية في أوساطهم وعلاقاتهم المتوترة مع محيطهم الجُغرافي والديموغرافي. وفي مستوى أكثر راديكالية في المراقبة والمتابعة، يمكن القول بأن سبعين حزبا سياسيا كُرديا لم تقدم منتجا فكريا سياسيا جديدا واحدا، مختلفا عما أنتجته الحركة القومية الكُردية السورية من أدبيات ومقولات وتحليلات، منذ عقود كثيرة مضت.

على جنبات ذلك البؤس، فإن القوى والنخب السياسية الكُردية السورية تتوزع على ضفاف الصراعات الإقليمية، داخلة في الثنائية الخانقة: قضايا الآخرين ذات أولوية على قضية ذوينا، وهذه الأخيرة في خدمة قضايا الآخرين.

لم يكن لأحد أية أوهام بأن القوى السياسية الكُردية السورية مختلفة عن باقي تجارب المنطقة، لكن الكُرد السوريين، البسطاء الذين بقوا غير مرئيين لعقود كثيرة، كانوا مملوئين بأمل أن تكون مصائر تجاربهم، فيما لو ظهرت على صفحة التاريخ، أقل بؤسا مما استقرت عليه من أوبئة.

اقرأ للكاتب أيضا: الإخوان المسلمون السوريون يقرأون قاموس أدونيس

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.