كانت أول زيارة لي للمغرب (المملكة المغربية) قبل سبع سنوات تقريبا. كانت الزيارة قصيرة، ولكنها نبهتني على جمال المغرب/ على مفاجأة لم تكن في الحسبان، ليس فقط من حيث اكتشافي المغرب كبلد رائع على أكثر من مستوى، وإنما أيضا ـ وهو المحيّر ـ من حيث عجزي عن تفسير سبب غفلتي عنه طوال كل تلك السنين الماضية، خاصة وأني تجوّلت قبلها في أكثر من ثلاثين دولة، من أستراليا في أقصى الجنوب الشرقي، إلى كندا وأميركا في الشمال الغربي، فضلا عن معظم الدول الأوروبية وكثيرا من الدول الآسيوية والعربية، حيث بدأت معي هواية اكتشاف الجغرافيا الدولية وأنا في حدود العشرين من عمري، واستمرت معي حتى الآن، ولو كنت من غير ذوي الدخل المحدود، المعدوم أحيانا؛ لعَبَرْت كل حدود، ومن كُلِّ جهاتها الأربع أيضا.
في الأيام الأولى لزيارتي الأولى للمغرب كانت مشاعري خلطيا من السعادة بهذا البلد الجميل الذي أكتشفه للتو، وفي الوقت نفسه، مشاعر الندم والحزن على أني تأخرت في اكتشافه، وهو الأقرب والأجمل والأرقى. وكنت كلما ازدادت سعادتي به، وتنامى إعجابي بمكوناته الجغرافية والبشرية والثقافية؛ تصاعدت لدي مؤشرات الندم والحزن، واشتدت حيرتي في تفسير غفلتي عنه. ثم أنساق وراء هذه المشاعر المختلطة المتضاربة، فأجدني أغضب من نفسي أشد الغضب؛ عندما أتذكر أني بذّرت كثيرا من أيامي في أماكن لا ترقى ـ وإن جمُلت وتجمّلت ـ أن تصبح نجما في سماء المغرب. ويمكن اختصار حالي في اللقاء الأول مع المغرب بقول أبي الطيب المتنبي في ممدوحه:
وكادَ سُروري لا يَفي بنَدامَتي على تَرْكِهِ في عُمْرِيَ المُتَقَادِمِ
غير أني أزعم أن المتنبي يقول ـ بالبلاغة الفائقة ـ كذبا، وأنا أقول ـ بالبلاغة المتواضعة ـ صدقا. هو يرجو عطاء/ نوالا/ جزاء ـ وهي مهنته التي يعتاش منها ـ؛ وأنا لا أريد جزاء ولا شكورا؛ إلا دلالة على خير/ جمال للباحثين عنه في أفق المكان والإنسان.
في الزيارة الأولى التي لم تتجاوز خمسة عشر يوما ـ كما خططت لها ابتداء، معتقدا أنها كافية، وأكثر من كافية! ـ كتبت انطباعاتي في سطور أوليّة/ مسودات، ولم أشأ أن أكتب عنها بتوسع، أو أن أنشر ما أكتب؛ لخوفي أن تكون تلك الانطباعات الأولى خادعة، خاصة وأنها كانت عابرة في أيام معدودة، ومدن محدودة. وربما كان ثمة هاجس خفي في نفسي يتمنى أن تكون هذه الانطباعات الأولى الجميلة كاذبة خادعة؛ حتى لا يتصاعد مستوى الندم إلى درجات الحسرة المُعذّبة. بمعنى أنني كنت في نزاع عاطفي بين أن تكون انطباعاتي الأولى حقيقة؛ لأسعد بها حاضرا ومستقبلا، وأن تكون كاذبة خادعة؛ لأقنع نفسي أنني كنت على صواب في تأخري عن المغرب كل هذه السنوات التي بدت في نظري عجافا؛ إذ لا "مغرب" فيها!
عموما، تعددت زيارتي بعد ذلك مرارا وتكرارا، ولكن، بدل أن أمكث في كل زيارة خمسة عشر يوما كما في الزيارة الأولى، بدأت أمكث طويلا فيما يشبه الاستقرار، حيث أستقر لثلاثة أشهر كاملة، ولا يخرجني منها إلا أن النظام الذي لا يسمح أن تستمر الزيارة الواحدة أكثر من تسعين يوما. لكني لا أخرج من المغرب إلا لكي أعود إليه، ولو أني من ذوي اليد/ الوفرة المادية؛ لتملّكت ما يمنحني حق الإقامة الدائمة، كما يفعل ذلك كثير من الأوروبيين وبعض الأغنياء العرب، أولئك "السعداء" الذين لا يحتاجون مراقبة عدّاد الأيام استعدادا للرحيل.
المهم، كل زياراتي التالية أكدت لي صدق انطباعاتي الإيجابية الأولى عن المغرب. وأكثر من ذلك، فبعد زياراتي الأولى في تلك السنة الاكتشافية، وجدت المفكر السوري خالص جلبي الذي أشتبك معه في كثير من همومه الفكرية، يكتب عن المغرب؛ متغزلا بأرضه وسمائه وأناسه وثقافته، مؤكدا كل تفاصيل هذا الغزل بشكل عملي؛ حيث قرر الاستقرار في المغرب بشكل نهائي؛ مع أنه حاصل على الجنسية الكندية، ويستطيع ـ ماديا ـ الاستقرار في أي مكان يشاء.
أيضا، في أواخر سنة 2014 وجدت المفكر الكويتي د. محمد الرميحي يكتب مقالا جميلا عن "سحر المغرب"، وجدت فيه أن كل انطباعاته التي سردها في هذا المقال تتفق تقريبا مع انطباعاتي التي كنت أعيد مساءلتها كلما زرت المغرب. وإذا كان نموذج خالص جلبي غير معبر عند كثيرين لكونه ـ تبعا لظروف سوريا الحرجة التي لا تسمح له بالاستقرار فيها ـ يبحث عن وطن/ مقر إقامة يشبه وطنه؛ فإن نموذج محمد الرميحي لا يمكن إلا أن يكون معبرا، فهو يتحدث عن المغرب بلغة المقارن الذي زار كثيرا من دول العالم، وبلغة الخبير بعالم العرب الذي رصد تحولاته لسنوات؛ فكانت النتيجة ـ وفق ما يرى ـ لحساب المغرب الذي اختط ما أسماه "العزيمة المبصرة"، التي تصنع وستصنع مستقبل المغرب.
من الملاحظات الإيجابية التي صدمتني منذ أول زيارة، وعدّها الرميحي من "سحر المغرب" أن الناس في المغرب تتسم بالهدوء الشديد، إذ لا صخب، لا أصوات عالية، فحتى في الأماكن المزدحمة لا تسمع ذلك الضجيج الذي تسمعه في مثل تلك الأماكن من مدن الشرق المزدحمة؛ حسب تعبير الرميحي. وأضيف، أن هذا المسلك الإيجابي في المغرب يعمّ معظم مناحي الحياة، فلا ضجيج، ولا أصوات عالية؛ حتى في سياق الإنجاز التنموي والمعرفي الذي يسير فيه المغرب بخطى واثقة. المنجزات تتم فيما يشبه الصمت، إذ الأفعال تتحدث عن نفسها، النجاحات المعرفية والتنموية تبدو ـ لانعدام الصخب الإعلامي حولها ـ وكأنها طبيعية، وكأنها مطر السماء؛ لا دخل للإنسان فيها. ينشر المغربي رواية رائعة، أو يُصدر ديوان شعر جميل، أو يكتب كتابا فكريا باذخ العمق؛ فلا يحشد لذلك حفلة إعلامية صاخبة. تبني هذه الوزارة التنموية أو تلك هذا الجسر الطويل، أو ذاك السد المائي الضخم؛ فلا يملأون الدينا ضجيجا بالسد العالي ولا بالجسر الاستثنائي.
المغاربة يعملون بتخطيط واضح، وبإتقان، ولكن بصمت؛ وكأنهم لا يفعلون شيئا. في السنوات الأخير يبدو المغرب وكأنه في ثورة تنموية، مشاريع البناء: بناء المساكن والطرق والمرافق الحيوية والمدن السياحية والموانئ وسكك القطار... إلخ تملأ فضاء الواقع الفعلي، ولكن لا وجود لها في الفضاء الافتراضي أو الإعلامي وجودا يوازي أو حتى يقارب حضورها الفعلي في الواقع العملي.
أيضا، لاحظت على المغاربة غياب التعصب، وهو مما أكده د. محمد الرميحي. والمقصود: غياب التعصب الديني حتى عند المتدينين، إضافة إلى غياب التعصب القبلي والمناطقي؛ مقارنة بدول المشرق، حيث تجد في المغرب الحرص على عدم الخوض في "المهاترات"، في كل الأمور، صغيرها وكبيرها، عند أعلى الطبقات الثقافية؛ كما عند أدنى الطبقات الشعبوية. يُعبّر المغاربة عن آرائهم السياسية والاجتماعية بكل وضوح، ولكن بكل أدب، وبدون تشنج أو تعصب أو أصوات مرتفعة، لا يشتمون ولا يلعنون ولا يسخرون عندما يعبرون عن مواقفهم؛ كتلك الأصوات التي تحاول الإقناع بالمستحيل.
لا أنكر أن ثمة ملاحظة مهمة ترددت في تسطيرها في انطباعاتي عن المغاربة، حتى وجدت د. محمد الرميحي يشير إليها في مقاله الجميل، وهي "الأمانة" التي يتمتع بها البائع المغربي بشكل ملحوظ، ومن ورائه الإنسان المغربي. كنت في كل مرة أصطدم بوقائع عينية لهذه الأمانة؛ أردّ ذلك إلى أن هذه حالات استثنائية، لأفراد محددين، أو أماكن محددة، أو مهن محددة؛ حتى تكاثرت الحالات، وأصبحت تعبّر ـ بضرورة تضافرها ـ عن مسلك أخلاقي عام.
ليس معنى هذا أنه يستحيل وجود الغش، بل المقصود أنه ليس ثقافة اجتماعية، وبالتحديد، ليس ثقافة بيع وشراء وأخذ وعطاء؛ كما في كثير من مجتمعات الشرق العربي. ممكن أن يغشك البائع المغربي (مع أنه احتمال نادر)، ولكنه سيحس بالخزي والعار لو اكتشفت غشه، أو كشفته لمعارفه، بينما الغش في مجتمعات العرب/ غير المغرب يعده البائع مفخرة، يعده إنجازا به يؤكد ذكائه، وبه يؤكد لنفسه ولغيره قدرته على البقاء كـ"ذئب" في مجتمع الذئاب!
طبعا، تضيق هذه السطور عن سرد كثير من الانطباعات التي تؤكد على فرادة ذلك المجتمع العربي المغربي القابع في أقصى عالم العرب. لكن، لبعض ما بقي جمالٍ وأملٍ ووعود ضمنيةٍ لنهضةٍ عربيةٍ مقال آخر/ الأسبوع القادم؛ أحاول فيه التدليل على زعمي الاستشرافي بأن حضارة العرب المتوهجة بكل ما هو ثقافي وإنساني ستشرق غربا لتَعُمَّ ـ بدرجات متفاوتة طبعا ـ فضاء العرب العام.
اقرأ للكاتب أيضا: تهافت أسطورة الكرم العربي
ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).