كيف سيتصرف الأردن حيال ما يعرف بـ"صفقة القرن"، وما المواقف التي يتوقعها الأردنيون من حكومتهم، وكيف ستتصرف حيال مشروع (عند الكشف عنه)، تعتقد غالبية الرأي العام ومؤسسات صنع القرار في الدولة الأردنية بأنه سيلحق ضررا بالغا بأمن الأردن واستقراره وهويته الوطنية وسلامه الاجتماعي، على المدى المتوسط إن لم يكن على المدى المباشر؟ هل مسارا السلام الأردني والفلسطيني مع إسرائيل متلازمين، وهل يمكن تفادي انعكاسات أية انهيارات لأحدهما على الآخر؟
أسئلة وتساؤلات تهيمن بهذا القدر، بهذه الصورة أو تلك، على اهتمامات الرأي العام في الأردن (وفلسطين كذلك)، وتدور بشأنها حوارات ونقاشات، وتثير كثير من التوقعات والتكهنات.
الصورة كما تبدو من إسرائيل
في الوقت الذي يشعر فيه كثير من الأردنيين، بأن رياحا عاتية قد هبّت على العلاقة الأردنية ـ الإسرائيلية خلال ربع القرن الأخير، وأن إسرائيل لم تعد تولي الأردن "الاهتمام الاستراتيجي" الذي كانت تبديه قبل معاهدة السلام، وبالأخص بعدها، يقف المراقبون والمحللون الأردنيون أمام أثر التحولات في المجتمع الإسرائيلي واتجاهه نحو التطرف الديني والقومي، على مكانة الأردن من منظور إسرائيلي.
ثمة مخاوف من أن النخب الإسرائيلية لم تعد تكترث كثيرا بمصالح الأردن، حساباته وحساسياته، وأن مضي حكومة اليمين واليمين المتطرف في مساعيها لتقويض حل الدولتين، والتنكر لقضية اللاجئين (وحق العودة والتعويض)، فضلا عن التحدي اليومي لمقتضيات "الرعاية الهاشمية" للمسجد الأقصى والمقدسات، من شأنها أن تلحق أفدح الضرر بمصالح الأردن الوطنية العليا، وتجعل منه، الضحية الثانية لصفقة بعد الفلسطينيين مباشرة.
ويراقب الأردنيون بكثير من القلق والتحسب، انتقال مركز الاهتمام الإسرائيلي إلى دول الخليج الثرية والنافذة، حيث تولي حكومة نتنياهو علاقاتها مع قادة هذه الدول، اهتماما أكبر من ذاك الذي توليه لحفظ علاقاتها مع الأردن وتطويرها.
والحقيقة أن هذه المخاوف مفهومة ومبررة تماما، وتجد جذورها العميقة، كما قلنا، في تحولات المجتمع الإسرائيلي وانزياحاته المنهجية المنظمة صوب اليمين الديني والقومي، وتزايد نفوذ "لوبي الاستيطان" في السياسة الإسرائيلية.
بيد أن ما يغيب عن أذهان كثير من المراقبين الأردنيين، هو أن النخب الحاكمة في إسرائيل تتصرف على قاعدة أن "الأردن مضمون"، وأن ثمة سقوفا خفيضة لما يمكن أن تكون عليه ردود أفعال الجانب الأردني حيال ما يصدر عن الحكومة الإسرائيلية من مواقف وسياسات وممارسات، وأن هذه الردود، في الغالب، معروفة ومتوقعة وممكنة الاحتمال، الأمر الذي عزز حالة "عدم الاكتراث" بحسابات الأردن وحساسياته حيال مواضيع عدة، تبدأ من الانتهاكات اليومية للرعاية الهاشمية للمسجد الأقصى ولا تنتهي بالتصورات الإسرائيلية للحل النهائي للقضية الفلسطينية.
والمسألة الثانية التي تغيب عن أذهان هؤلاء المراقبين، أن ثمة محاولة إسرائيلية جادة وجدية، لتكريس "الفصل" بين مساري السلام الأردني والفلسطيني، ما يعني أن ما تقوم به إسرائيل من ممارسات وما تتخذه من مواقف وسياسات على المسار الفلسطيني، يمكن احتواء تأثيراته على مسار العلاقة الأردنية ـ الإسرائيلية.
في رهانها على الفصل بين المسارين، تنطلق السياسة الإسرائيلية من جملة فرضيات من بينها: (1) أن إسرائيل يمكن أن تلعب دور الضامن لأمن الأردن واستقراره، في إقليم شرق ـ أوسطي متغير، تتزايد فيه التهديدات لأمن دوله ومجتمعاته، وتتعرض فيه أنظمة الحكم لأخطار الفشل والتبدل... (2) أن علاقات الأردن مع الولايات المتحدة، القائمة على "الاعتمادية" تجعل لردود الأفعال الأردنية سقوفا متوقعة ومنخفضة... (3) أن تجربة ربع القرن الأخير، أظهرت أن "حاجة" الأردن للسلام مع إسرائيل لا تقل عن حاجة إسرائيل له، بدلالة أن الأزمات المتعاقبة التي مرت بها هذه العلاقة، لم تصبها في مقتل، وإن تسببت ببعض الفتور على مستوى "كيمياء" العلاقات الشخصية بين قادة الجانبين، وبدلالة أن هذه الأزمات، لم توقف مشاريع مشتركة ذات طبيعة استراتيجية بين الأردن وإسرائيل من شأنها تعميق "اعتمادية" الأولى على الثانية، وتحديدا في مجالي المياه والطاقة.
الصورة كما تبدو مع الأردن
في الأردن، وعلى المستويين الرسمي والشعبي، ثمة قناعة راسخة بصعوبة الفصل بين المسارين، وأن "تلازمهما" تمليه جملة المصالح العميقة للدولة الأردنية في مختلف ملفات الحل النهائي للقضية الفلسطينية (الحدود، السيادة، الدولة، القدس، المياه، اللاجئون وغيرها). لقد عرّف الأردن مصالحه في الحل النهائي بقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة، تجسيدا للنظرية الناظمة للموقف الأردني (الأردن هو الأردن وفلسطين هي فلسطين) وبما يغلق الباب في وجه أدوار أردنية غير مرغوبة في الضفة الغربية (أو قطاع غزة).
وإذ تبدي غالبية الرأي العام الأردني قلقا حيال المخاطر المترتبة على "صفقة القرن" على أمن بلادهم واستقرارها وهويتها الوطنية، فإنهم يتوقعون من حكومتهم أن تتصرف على هذا الأساس، وأن تتخذ من المواقف والسياسات، ما يسهم في إحباط مساعي جارد كوشنير وفريقه لتمير هذه "الصفقة" أو فرضها على الأطراف، بقوة "العصا والجزرة".
وزادت مداولات "ورشة المنامة" المشهد تعقيدا، إذ أدرك الأردنيون أن المطلوب منهم "كثير جدا" نظير "حفنة من الدولارات"، فالمبالغ المرصودة للأردن في السنوات العشر القادمة (7.3 مليار دولار)، تعتبر ضئيلة للغاية بالقياس لما سيتعين عليه فعله لاستيعاب وتعويض أكثر من أربعة ملايين فلسطيني يقيمون على أرضه منذ أكثر من سبعين عاما.
لقد خضع الموقف الأردني المتحسب لصفقة القرن والمتخوف منها، لـ"اختبار قاس" في "ورشة المنامة"، إذ اضطرت الحكومة للمشاركة في الورشة بالضد من رغبتها، وتحت الضغط والخشية من تداعيات المقاطعة... ليرتفع بذلك منسوب قلق الأردنيين من مغبة الاستمرار بهذه السياسة، التي وإن كانت تتحفظ على صفقة القرن وتخشاها، إلا أنها لا تجد بديلا عن "التساوق" معها على أقل تقدير.
وتقود هذه المقاربة المراقبين للبحث في الكيفية التي ستتصرف بها الحكومة عند الكشف عن "الصفقة" حيث يسود اعتقاد بأنها ستكتفي بالتأكيد على تكرار مواقفها التقليدية المعروفة حيال "حل الدولتين" و"الحل العادل والمتفق عليه لقضية اللاجئين"، من دون أن تتخذ من المواقف والسياسات والممارسات، ما يمكنها من إحباطها، وأنها قد تعتمد تكتيك "توظيف الرفض الفلسطيني" للتأكيد على تعذر نجاحها.
ستسعى الدبلوماسية الأردنية إلى تفادي الإقدام على اتخاذ مواقف وسياسات من شأنها المس جوهريا بسلامها مع إسرائيل وعلاقاتها مع واشنطن... وتحت هذا السقف، وتحته فقط، يمكن توقع حدود المواقف الأردنية ومحدداتها... هذه هي الخلاصة التي يخلص إليها المراقب عن كثب لمجريات الموقف الأردني مع الاقتراب من لحظة الكشف عن "المبادرة/الصفقة"... الأمر الذي يعيدنا للفرضية الإسرائيلية الأساسية: "الأردن مضمون".
الصورة من فلسطين
ليس معروفا بعد، كيف سيتطور الموقف الفلسطيني حيال "صفقة القرن"، لكن من الواضح أن هذا الموقف في تصاعد مستمر، لعل آخر فصوله وتجلياته، القرارات الأخيرة التي اتخذها رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، والمتمثلة في "وقف العمل" بجميع الاتفاقات المبرمة بين السلطة وإسرائيل... لكن السلطة، وإن لم تُبد ارتياحا حيال مشاركة الأردن في "ورشة المنامة"، إلا أنها لا تكف عن البحث عن "أعذار" لمواقف عمان... ومن المستبعد أن "تقامر" السلطة بعلاقاتها مع الأردن، حتى وإن افترقت المواقف، وجاءت ردود أفعال عمّان على الصفقة، أقل بكثير مما يتوقعه الفلسطينيون.
قد تذهب السلطة الفلسطينية في مواجهتها مع إسرائيل و"صفقة القرن" إلى أقصى الحدود، بما فيها المقامرة بحل السلطة أو انحلالها... لكنها ولأسباب عديدة، ستُبقي مواقفها من الأردن مضبوطة بسقف معين، فهي تعرف أن "جسر الملك حسين"، هو الرئة التي يتنفس منها أهل الضفة، وهي متمسكة بألا تعيد إنتاج تجربة "معبر رفح" على حدودها مع الأردن، بما يقتضيه الأمر من "احتواء الخلاف" إن تعذر "تعميق التنسيق والتعاون".
خلاصة هذه الرؤى والتصورات إن صحت، هي أن "التلازم الموضوعي" بين مساري السلام الأردني والفلسطيني مع إسرائيل، وإن كانت تغذيه وتعززه المصالح العميقة المتداخلة والمتشابكة، ويقر به الجانبان الفلسطيني والأردني، إلا أن حسابات السياسة الواقعية "Réal Politque"، قد ترغم صناع القرار فيهما على التفكير بـ"انفصالهما"، وهو أمر تجد فيه إسرائيل مصلحة عليا لها، وتراهن عليه للاستفراد بالفلسطينيين بأقل قدر من الخسائر.
اقرأ للكاتب أيضا: "عامل الوقت" في أزمة الخليج والمضيق
ـــــــــــــــــــــ الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).