كان يمكن لوفاة الرئيس التونسي باجي قايد السبسي أن تمر كحدث عادي (بكل ما يليق من حزن) فيرسخ دولة المؤسسات والقانون في جمهورية تونس، وهو الأمر الطبيعي المفترض والمنشود في كل تلك الدول من الخليج "إياه" إلى المحيط "ما غيره"، خصوصا أن الراحل رحمه الله كان قد بلغ التسعين من العمر وقد أنبأ بوفاته قبل أسابيع بدخوله المستشفى وبغيبوبة مرضية.
حسنا، لقد كانت تونس بعمومها (بعيدا عن شواذ المتطرفين)، دولة مؤسسات فعلا منذ لحظة وفاة السبسي وفي جنازته الرسمية ومراسم تداول السلطة وإعلامها الرسمي والأهلي بمؤيديه ومعارضيه.
لكن الحدث تجاوز العادي "المفترض وجوده"، لأن "غير العادي الفارض وجوده" من تطرف وتعصب إسلاموي في عالمنا العربي لا يزال يطل برأسه ليفسد اللحظة ويهز ولو قليلا مراتب الحزن المهيب في تونس.
انتصر الوعي التونسي رغم المنغصات، ورغم فيديوهات وتعليقات ساقطة إقصائية أصدرها دعاة العتمة مثل وجدي غنيم الذي يقيم في تركيا ومنها يصدر فتاويه الكريهة بحق رجل دولة رفيع المقام مثل السبسي، ويهين التونسيين بينما زميله الإخواني عبدالفتاح مورو يمشي خلف جنازة الرئيس الراحل المهيبة، وقد تغلب وعيه التونسي على تعاليم سيد قطب البائسة.
انتصرت الدولة المدنية في تونس، تلك التي كانت مزروعة في العقل الجمعي التونسي وأطاحت باستبداد زين العابدين بن علي، الديكتاتور الذي حجب تونس عن وعيها الكامن فيها لعقود، لكنه لم يستطع بكل قبضته الأمنية أن يلغي هذا الوعي الكامن في العقل الباطني التونسي.
لكن، هل كان هذا الوعي "المدني" التونسي بورقيبيا؟ هل هو حصاد ما زرعه بورقيبة فعلا، أم أنه تراكم تاريخي طويل يبدأ من قرطاج وقبلها من هجرات الواندال وما بعدها من ثقافة شعوب الأمازيغ العريقة؟
هل يمكن اعتبار حرية المرأة التونسية نتيجة مباشرة لسطوة بورقيبة في تمرير مجلة الأحوال الشخصية أم هي إعادة إنتاج لروح الحرية التونسية منذ الملكة الأمازيغية المقاتلة "ديهيا" والتي لا يزال العرب بتاريخهم المشرقي الصحراوي الكلاسيكي يحاولون طمسها بتسميتها بالكاهنة؟
لا يفي مقال هذه الأسئلة حق الأجوبة الصحيحة والمنهجية؟ ولا كاتب مثلي متواضع الإمكانيات في الدراسات التاريخية لكنني أسعى إلى قراءة المناطق المعتمة من هذا التاريخ وباستمرار.
♦♦♦
مشهد
في سبتمبر الماضي، صديق مسيحي كاثوليكي أخبرني أن لقاءنا سيتعذر صباح اليوم التالي، لأنه سيذهب لصلاة الأحد في كنيسة فرنسية (والفرنسية لغة لا يتقنها صديقي الطيب والمؤمن).
ظهيرة الأحد، كنت قد وصلت إلى نهاية شارع بورقيبة الشهير في العاصمة، لأجد على يميني كنيسة ضخمة مشرعة الأبواب، دخلتها وكانت مراسيم الصلاة قد انتهت للتو، سألت فكان الجواب أن الصلوات بالعربية (والتي يتحدث بها صديقي الطيب والمؤمن).
♦♦♦
المشهد يعود للذاكرة مرارا وتكرارا، مرة حين تعرض الشارع الطويل والشهير نفسه لحادث إرهابي من قبل متطرفة فجرت نفسها، ومرة من خلال جدل متواصل حول مقاهي الشارع التي ترفض تقديم البيرة للطاولات التي على الرصيف خوفا من متطرفين عابرين، واليوم يعود المشهد وأنا أقرأ عن تونس تاريخيا وأحاول فهم الأحجية التونسية التي لا يدركها إلا "التوانسة" كما يحبون تسمية أنفسهم.
على بعد مسافة مشي قصيرة من تلك الكنيسة الكبيرة في نهاية شارع بورقيبة، يتموضع جامع الزيتونة القديم والعريق، وقد بناه القائد الإسلامي حسان بن النعمان معلنا ببنائه نجاحه في احتلاله العسكري للمنطقة بعد هزيمته الملكة المقاتلة ديهيا وقطع رأسها وإرساله إلى الخليفة في دمشق.
الجامع مبني على أنقاض كاتدرائية قديمة، تماما مثل الجامع الأموي في دمشق المبني على كاتدرائية مسيحية تحوي قبر يوحنا المعمدان.
تلك معضلة تاريخية تثير جدلا عاصفا دوما، وسيثور الجدل على فقرتي تلك مثلا في التعليقات والردود على مقالي هذا إلى ما لا نهاية.
لكن "التوانسة" بتركيبتهم التاريخية الفريدة والمميزة، يتغلبون على كل ذلك الجدل ويتصالحون مع تاريخهم المتشابك والمعقد بوعي الدولة المدنية ومفاهيم الحرية الإنسانية.
التوانسة هؤلاء الذين انتخبوا التيار الإسلامي "حزب النهضة" بعد إطاحتهم باستبداد بن علي، وحين أخفق الإسلاميون بتحقيق ما يريده المواطنون المدركون لمفهوم المواطنة، انتخب "التوانسة" حزب نداء تونس، واستحضروا شخصية محترمة من عهد "بورقيبة".
لم يكن بورقيبة ديمقراطيا، استأثر بالسلطة زمنا طويلا سمح لرجل أمن بوليسي أن يختطفها منه ومن الشعب، لكنه كان رجلا تنويريا لم يخترع العجلة، بل أعاد الروح لمن سبقه من تنويريين مثل الطاهر حداد ومعلمه محمد علي الحامي وغيرهما من مناضلين نقابيين ومقاومين كانت روح "النهضة المدنية" تعيش فيهم.
حرية المرأة كانت أهم ما نادى به الطاهر حداد، الذي مات كمدا بعد محاصرته واغتياله مدنيا من قبل قوى التطرف الديني.. لكن أفكاره وجدت طريقها بعد الاستقلال.
بعد ثورة تونس عام 2011، صحح التوانسة ثورتهم الأولى بحركة وعي تصحيحية أعادت تنوير "بورقيبة" لكن مع دمقرطة "البورقيبية".
ومع وفاة السبسي، تنتهي مرحلة يبدأ فيها التوانسة مرحلة نترقب فيها تجربة ناضجة، لم تتأثر بعد الربيع العربي لا بالكاز ولا بالغاز، لكنها مليئة بالتربص والتصيد ورهاني كمراقب دوما على هذا العقل الجمعي التونسي.. الذي قرأته بوضوح وبهجة "وحزن لائق" خلف نعش رئيس الجمهورية التونسية.
اقرأ للكاتب أيضا: إعلام على رقعة شطرنج
ـــــــــــــــــــــ الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).