جندي من مشاة البحرية الأميركية في مضيق هرمز
جندي من مشاة البحرية الأميركية يراقبا قاربا إييرانيا سريعا في مضيق هرمز

مايكل سينغ/

بعد عامين من التوترات المتزايدة باطراد، تواجه واشنطن وحلفاؤها أزمتَين في سياستهم تجاه إيران. تتمثّل الأولى، التي تحصل علانية، بأزمة الخليج العربي. أما الثانية، فهي أقل علانية ولكن يمكن اعتبارها أكثر خطورة، وهي إلغاء إيران بوتيرة بطيئة لـ "خطة العمل الشاملة المشتركة" لعام 2015. وفي الواقع، إن الأزمتان متشابهتان وتستوجبان ردا شاملا من قبل إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب.

التحوّل في الاستراتيجية الإيرانية

حتّى وقت قريب، بدت إيران راضية عن الانتظار [حتى انتهاء فترة ولاية] إدارة ترامب، والصمود أمام انقضاض العقوبات الاقتصادية التي تشمل استراتيجية "الضغط الأقصى" التي تعتمدها واشنطن. وحيث تقدّر طهران أن رئيس ديمقراطي، إذا ما انتُخب في عام 2020، سيقوم بإعادة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي، فاجأت إيران المراقبين من خلال تقيّدها إلى حد كبير بحدود "خطة العمل الشاملة المشتركة" على الرغم من انسحاب الولايات المتحدة منها في العام الماضي.

وربما تكون إدارة ترامب قد اعتبرت ذلك أفضل ما في الوضعين ـ الالتزام إلى حد كبير ولو على مضض بالعقوبات الأميركية، مما أدى إلى ركود اقتصادي عميق في إيران، ولكن النظام لم يوسّع برنامجه النووي أو يرد بطريقة أخرى. ولكن السياسة لم تأتِ بالنتيجة المرجوة، إذ لم تعد إيران إلى طاولة المفاوضات. وقد كان موقف طهران يعني أن الاتفاق النووي ظل قائما بانتظار عودة رئيس مستقبلي للنظر فيه [ثانية]، وأن الدول الأخرى كانت أكثر تركيزا على الحفاظ على الوضع الراهن بدلا من الانضمام إلى الولايات المتحدة في معاقبة إيران.

اضطرت طهران إلى تقليص ميزانيات وكلائها مثل "حزب الله"

​​وبالتالي، ضاعفت الولايات المتحدة الضغط الأقصى، معلنة أنها لن تُصْدِر بعد الآن وثائق تنازل تسمح لدول أخرى بشراء النفط الإيراني. وردا على ذلك، فإن طهران ـ التي شعرت على ما يبدو أن الانتظار [حتى انتهاء فترة ولاية] ترامب أصبح أكثر كلفة بكثير ـ قررت تغيير قواعد اللعبة. فاستعانت بأفضل مصدريْ نفوذ لها للضغط على الغرب كما ترى على الأرجح، وهما: برنامجها النووي واستعدادها للمخاطرة في المنطقة، اللذان يفوقان استعداد واشنطن وفقا لحساباتها.

إن الهدف الرئيسي لإيران غير مؤكد. فهي ربما تحاول تعزيز نفوذها قبل المفاوضات المحتملة، أو ربما تسعى لتخويف الولايات المتحدة لكي تخفف من حدة العقوبات لكي تتمكن من العودة إلى إتباع سياسة الانتظار [حتى انتهاء فترة ولاية] ترامب. ويعلم مسؤولو النظام أن القادة الغربيين قلقون من نتيجتين في الخليج، هما: تطوير إيران لسلاح نووي أو حرب مع إيران. ومن خلال جعل أي من النتيجتين أو كلتيهما تبدوان أكثر ترجيحا، تأمل إيران على ما يبدو إرغام القادة الأميركيين والأوروبيين على إعادة النظر في سياساتهم والبحث عن مخرج للأزمة المتصاعدة. وربما هذا هو السبب الذي يدفع طهران إلى المشاركة في أعمال تبدو وكأنها هزيمة ذاتية للوهلة الأولى، مثل استهداف ناقلات نفط يابانية خلال زيارة رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي لطهران، أو ملاحقة الشحن البريطاني بالرغم من اعتراض لندن على انسحاب واشنطن من "خطة العمل الشاملة المشتركة".

ولكن ما يبدو واضحا هو أن إيران لن تلين، إذ لديها الكثير من الأمور على المحك من الناحية الاقتصادية، ما يمنعها من التراجع ما لم تتغير الظروف الراهنة بشكل ملحوظ. ويُعد قرار النظام بتجاوز حدود الاتفاق النووي ـ وعلى وجه التحديد الحد الأقصى المفروض على مخزون إيران من اليورانيوم المنخفض التخصيب ـ المثال الأحدث والأكثر خطورة على ذلك. ولن تتسارع الأزمة إلا عندما يبدأ الجدول الزمني لتحقيق الاختراق النووي الإيراني في التقلص، أو إذا رأت طهران أنها تستطيع التصرف مع الإفلات من العقاب في الخليج.

التأثير على الاستراتيجية الأميركية

لطالما اعتُبر الرد على الاستفزازات الإيرانية في الخليج والشرق الأوسط الأوسع تحديا بالنسبة لواشنطن. فحتى بعد قيام وكلاء إيران بتفجير السفارة الأميركية والثكنات التابعة للبحرية الأميركية في بيروت عام 1983، تردد الرئيس ريغان ولم يفعل شيئا في النهاية (رغم أنه استثنى أيضا هذا الاتجاه، بترأسه "عملية صلاة السرعوف" عام 1988). ويخشى صانعو السياسات عموما من اتخاذ أي إجراء لأنه قد يجر الولايات المتحدة إلى حرب مع إيران كان كل رئيس أميركي قد سعى إلى تجنبها منذ عام 1979.

وحتى لو لم ترد الولايات المتحدة بالقوة على أزمة الخليج الراهنة، فمن غير الواضح ما إذا كان سيتم ردع إيران بسهولة. فمنطق الردع بسيط، ويتمثل بـ : وجوب دفع الخصم إلى الاعتقاد بأن أي تحد سيتم مواجهته بردّ شديد لدرجة تجعل الإجراء الأساسي باهظ التكلفة. ولكن في ظل ممارسة واشنطن "الضغط الأقصى" فعلا على شكل عقوبات اقتصادية، ومع إشارة الرئيس ترامب بوضوح إلى أنه ليس لديه مصلحة في نزاع عسكري، فقد تشعر إيران بأنها لن تخسر الكثير.

تعلم إيران أن الاندفاع لحيازة سلاح نووي أو استهداف المصالح الأميركية مباشرة سيولّد ردا مدمرا

​​وعندما يتعلق الأمر بانتهاكات الاتفاق النووي، يأمل المسؤولون الأميركيون بلا شك ـ بغض النظر عن وجهة نظرهم بشأن الزوال المحتمل للاتفاق ـ أن تؤدي الإجراءات الإيرانية إلى إدانات من قبل الأطراف الأخرى الموقِعة على "خطة العمل الشاملة المشتركة" والشركاء ذوي الآراء المشابهة. ومع ذلك، ففي حين أن العديد من الدول أدانت حتى الآن الانتهاكات الإيرانية، إلا أنها أرجأت أي عقوبة بموجب "خطة العمل الشاملة المشتركة"، ناهيك عن بذل أي جهود للتخلي عن الاتفاق بذاته أو الرد بقسوة من خلال فرض عقوبات متعددة الأطراف. أما الخطر بالنسبة إلى إدارة ترامب فيتمثل بالتخفيف الفعلي من "خطة العمل الشاملة المشتركة"، بحيث لا تلتزم إيران تماما ببنودها ولكن لا تتحمل أي عواقب غير العقوبات التي فرضتها واشنطن بالفعل. وقد يتمخض عن ذلك توريث الرئيس ترامب لخلفه "خطة عمل شاملة مشتركة ناقصة" أو وقتا أقصر لتحقيق الاختراق النووي الإيراني عوضا عن الاتفاق المحسّن الذي تعهد بالتوصل إليه.

الطريق نحو المستقبل

ستقوم ردة الفعل الفطرية للمسؤولين الأميركيين على التمسك بموقفهم. ويمكن اعتبار الإجراءات الإيرانية دليلا على اليأس وعلى نجاح السياسة الأميركية. ووفقا لبعض التقارير، اضطرت طهران إلى تقليص ميزانيات وكلائها، مثل "حزب الله"، ومع تراجع إيرادات النفط والاحتياطيات المالية بمرور الوقت، سيواجه النظام الإيراني صعوبات أكبر. ومن وجهة نظر واشنطن، تعلم إيران أيضا أن الاندفاع لحيازة سلاح نووي أو استهداف المصالح الأميركية مباشرة سيولّد ردا مدمرا.

ومع ذلك، يشعر الحلفاء بالقلق من استخفاف المسؤولين الأميركيين بقدرة النظام على الصمود، كما كان عليه الحال سابقا في العراق وأماكن أخرى. كما أنهم قلقون من أن سياسة حافة الهاوية التي تتبعها الولايات المتحدة وإيران ستؤدي حتما إلى نشوب صراع، حتى لو لم يرغب أي من الطرفين باندلاعه، وأن مثل هذا الصراع سيتسبب بتعاظم الاضطرابات في الشرق الأوسط وجنوب آسيا.

لكن هؤلاء الحلفاء أنفسهم ـ سواء في المنطقة أو خارجها ـ يشاركون أهداف واشنطن إلى حد كبير. فجميعهم يقلقون من سلامة النقل البحري التجاري، إذ لا يريد أحد منهم أن تمتلك إيران سلاحا نوويا أو تعامل دولا مثل سوريا واليمن ولبنان كقواعد عمليات أمامية لقواتها الإرهابية وقوات الصواريخ الخاصة بها. ولا يريد أحدا أن يشهد حربا بين الولايات المتحدة وإيران. وينتقد كثيرون السياسة الأميركية، لكنهم يدركون أن أهدافهم تتصادم في النهاية مع أهداف إيران وتلتقي مع أهداف واشنطن. وأكثر الأدلة وضوحا على هذا الإدراك هو الاستيلاء البريطاني الأخير على ناقلة نفط إيرانية متجهة إلى سوريا، إذ وجهت لندن بذلك رسالة مفادها أنها ستعارض أنشطة إيران الإقليمية وستفرض عقوبات أوروبية على سوريا رغم التوترات بشأن الاتفاق النووي، ورغم خلافها المعلن مع واشنطن على خلفية الانسحاب من "خطة العمل الشاملة المشتركة".

مع تراجع إيرادات النفط والاحتياطيات المالية سيواجه النظام الإيراني صعوبات أكبر

​​بالإضافة إلى ذلك، تُحسِن إيران بتذكيرها العالم بأسباب عدم ثقة الولايات المتحدة بها. فقد تحدّى النظام الإيراني التدفق الحر للطاقة، الأمر الذي يشكل مصدر قلق رئيسي لمعظم الدول. فهو لم يخرق "خطة العمل الشاملة المشتركة" فحسب، بل عُثر أيضا في حوزته على مواد نووية غير مصرح بها وفقا لبعض التقارير، في انتهاك محتمل لالتزاماته الأوسع بموجب معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية. أضِف إلى ذلك تدخلات النظام المستمرة في العراق واليمن، والأكثر تدميرا في سوريا، فضلا عن المخططات الإرهابية التي اتُهم بإعدادها على الأراضي الأوروبية في العام الماضي. هذا ولم تَظهر طهران فعليا بمظهر ودي مثير للتعاطف.

ويسلط ذلك الضوء على فرصة متاحة أمام الولايات المتحدة. ففي إعدادها لاستراتيجيتها تجاه إيران، استغلت إدارة ترامب مصدرا واحدا للنفوذ، وهو: القوة المالية الأميركية الهائلة. ولكنها أهملت إلى حد كبير مصدر نفوذ آخر، وهو: القوة الدبلوماسية الأميركية الهائلة أيضا. فإيران وحيدة من الناحية الجغرافية ـ السياسية، ولكن دول أخرى، حتى تلك غير الراضية عن سياسة الإدارة الأميركية، لا تزال تتطلع إلى القيادة الأميركية وإلى استراتيجية بإمكانها دعمها.

ومن خلال الاستفادة من هذه الأهداف المتقاربة، بإمكان واشنطن زيادة الضغط على إيران وحرمانها من فرص تفريق الولايات المتحدة عن حلفائها. بإمكانها أيضا إضعاف آمال طهران بالانتظار ببساطة [إلى حين انتهاء فترة ولاية] الرئيس ترامب، لأن الإدارة الأميركية المستقبلية ستجد أنه من الأسهل بكثير التراجع عن الإجراءات الأميركية الأحادية الجانب بدلا من التخلي عن استراتيجية تحظى بدعم متعدد الأطراف.

وتتمثل الخطوة الأولى من هذه الاستراتيجية في إعداد مجموعة من الخيارات الانتقامية التي يمكن للرئيس ترامب الاختيار من بينها عندما تستهدف إيران المصالح الأميركية أو مصالح الحلفاء في المرة القادمة. ويمكن لواشنطن آنذاك أن تعرض هذه الخطط على الحلفاء وتسعى للحصول على دعمهم المسبق إذا ما اضطرت الولايات المتحدة إلى تنفيذها. ولحشد هذا الدعم، يجب على الإدارة الأميركية تعديل الخيارات الانتقامية بدقة بحيث تكون مؤلمة بل متبادلة وغير تصعيدية. وحتى الآن، لم يصدر فعلا رد على الاستفزازات الإيرانية. وفي حين أن الرئيس ترامب محق في رغبته في تجنب الحرب، إلا أن هناك الكثير من الخيارات المتاحة ما بين الحرب والتقاعس.

ثانيا، على الولايات المتحدة وحلفائها أن يحرصوا على عدم توفر أهداف سهلة لإيران. وأفضل طريقة لتفادي التصعيد هي إحباط الجهود الإيرانية الرامية إلى شن هجمات في المقام الأول. ويعني ذلك اتخاذ أي خطوات إضافية متاحة لتدعيم البنى التحتية الأساسية للمنطقة والشحن التجاري والمنشآت العسكرية والمدنية الخاصة بالحلفاء. وتُعد الجهود الأميركية والأوروبية المبذولة مؤخرا لتعزيز دوريات الأمن البحري في الخليج بداية جيدة، ولكن لا بد من تضافر هذه الجهود. فعندما استولت إيران على ناقلة نفط بريطانية في 19 يوليو، كانت تثأر من الاستيلاء البريطاني على سفينة تجارية إيرانية سعت إلى الالتفاف على الحظر المفروض على مبيعات النفط لنظام الأسد، كما ذُكر سابقا. وبما أن واشنطن تريد من حلفائها أن يضغطوا على إيران بهذه الطريقة، فسيكون من الحكمة دعمهم عندما ترد طهران على ذلك.

وفي غضون ذلك، على الولايات المتحدة أن تكثف استطلاعاتها ومراقبتها في المنطقة بحيث يصبح احتمال القبض على إيران بالجرم المشهود إذا شنت ضربات أخرى، أكثر ترجيحا. ولا يزال العديد من الحلفاء يشككون في [فعالية] الاستخبارات الأميركية نظرا للإرث التاريخي الناجم عن حرب العراق، لذلك ينبغي حثهم على القيام بعمليات استخباراتية خاصة بهم أيضا. كما يجب على المسؤولين الأميركيين أن يخففوا بصورة مؤقتة من القيود المفروضة على تبادل المعلومات الاستخباراتية مع دول مثل فرنسا وألمانيا.

ثالثا، على الولايات المتحدة أن تذهب إلى أبعد من العرض الشامل الذي قدمه الرئيس ترامب للاجتماع بالقادة الإيرانيين من خلال التشديد على أنها تقدم مخرجا من الأزمة إذا كانت طهران ترغب في ذلك. وتحقيقا لهذه الغاية، يجب على واشنطن ألا تمنع الاتحاد الأوروبي من عرض مبادرات رمزية على إيران، كإطلاق ما يُعرف بـ "كيان الأغراض الخاصة"، طالما كانت هذه الآلية الاقتصادية شفافة ومحصورة بالتجارة ذات الأغراض الإنسانية.

على الولايات المتحدة وحلفائها أن يحرصوا على عدم توفر أهداف سهلة لإيران

​​بالإضافة إلى ذلك، على الولايات المتحدة أن تقترح عقد اجتماع عمل متعدد الأطراف لمناقشة الأزمة، على أن تكون المطالب الأميركية الاثني عشر التي ذكرها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو وأي قضايا قد تطرحها إيران عند دعوتها، كنقطة انطلاق للمناقشة. ولكن لا بد من أن يتضمن العرض سياسة العصا والجزرة، إذ على الولايات المتحدة أن تصر، كشرط مسبق حتى لتنظيم الاجتماع، على التزام الاتحاد الأوروبي والأطراف الأخرى بفرض عقوبات على إيران إذا استمرت في انتهاك الاتفاق النووي. ينبغي على واشنطن أن تشير إلى استعدادها لتخفيف الضغوط إذا أظهرت إيران استعدادها لتغيير مسارها. وحتى إذا رفضت طهران الدعوة، سيكون الاجتماع مفيدا لحشد الحلفاء، بما أنه يكشف عن غرض وخطة كامنة وراء حملة "الضغط الأقصى".

وبالطبع، لا تضمن هذه المقاربة حصول الرئيس ترامب على الصفقة الكبرى التي يسعى إلى عقدها مع إيران، والتي تبقى آفاقها بعيدة المنال. ففي النهاية، قد يتعين إدارة هذه المشكلة واحتوائها بدلا من حلها، على الأقل إلى أن تصبح طهران مستعدة لتغيير مسارها. ولكن الرئيس ترامب يمكن أن يحقق هدفا مختلفا يبقى جديرا بالاهتمام، وهو إضعاف النظام ووكلائه عن طريق حرمانهم من الموارد، وبالتالي فتح آفاق جديدة لحل النزاعات الإقليمية الحالية التي تستغلها إيران لتحقق ازدهارها من جهة ولتجنب اندلاع نزاعات جديدة من جهة أخرى. وإذا ما تحلّى الرئيس الأميركي بدرجة من الحكمة، بإمكانه أن يتجنب أيضا اندلاع أزمة كاملة يمكن أن [تخاطر] بوقوع الولايات المتحدة في شرك نزاع شرق أوسطي آخر، يعرقل خططا أوسع نطاقا تقوم على تركيز الطاقة الأميركية على التنافس الاستراتيجي مع منافسيها من القوى العظمى.

مايكل سينغ هو زميل أقدم في زمالة "لين ـ سويغ" والمدير الإداري في معهد واشنطن.

المصدر: منتدى فكرة

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.