بعد أشهر قليلة سوف تزداد أجواء حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية سخونة، مع اقتراب الانتخابات التمهيدية للحزبين الديمقراطي والجمهوري. وفي حين لن تشهد تمهيديات الحزب الجمهوري، كما هو متوقع، اهتماما كبيرا، على اعتبار أن الرئيس هو المرشح الرسمي للحزب، فإنها على الجانب الديمقراطي سوف تكون حامية الوطيس مع وجود أكثر من عشرين مرشحا يتعين اختيار واحد منهم فقط.
التمركز في الوسط
وعمليا فإن كل توقع الآن بشأن الأوفر حظا للفوز بالرئاسة عام 2020، سيكون مبكرا، ولا يمكن الحديث عنه على وجه الدقة، لكن نظريا يمكن القول إنه مع استمرار تحسن حالة الاقتصاد الأميركي ومع غياب أي تميز أو ما هو ملفت لدى المتنافسين الديمقراطيين على ترشيح حزبهم، تبدو حظوظ الرئيس الحالي دونالد ترامب في الفوز بولاية ثانية أكثر من خمسين بالمئة على الأقل، وفق المراقبين.
وتاريخيا يحرص المرشحان المتنافسان على منصب الرئاسة عادة على التزام جانب الوسط في مواقفهما، ومقاومة إغراء الانجرار نحو اليمين أو اليسار، خاصة في القضايا الكبرى. وسبب ذلك أن الوسط يجعلهما جذابين لكتلة المستقلين، وهي كتلة كبيرة في أميركا، إضافة إلى أن التزام الوسط يمكنهما من قضم أطراف اليمين واليسار التي تضم المعتدلين من كلا الحزبين، ما يؤمن لهما الفوز في الانتخابات.
خلاف ذلك فإن الاعتماد على الكتلة الانتخابية الديمقراطية أو الجمهورية لوحدها لا يضمن الفوز لأي رئيس.
حاليا ثمة جنوح نحو اليسار في مواقف معظم المتنافسين الديمقراطيين (مع اختلاف في الدرجة)، وهو أمر يمكن تفهمه لأنه موجه نحو قواعد الحزب الديمقراطي (وتحديدا لاستمالة تيار اليسار أو التيار التقدمي) مع شد الخطى نحو الانتخابات التمهيدية. لكن هذا الخطاب لا يصلح لحملة الانتخابات الرئاسية، ومن شأنه أن يمنح الرئيس ترامب فوزا سهلا على أي مرشح ديمقراطي.
فالقضايا التي سوف تهيمن على هذه الانتخابات تحتاج إلى مقاربات وسطية، سواء كانت قضية الهجرة والتأمين الصحي والتفاوت الاقتصادي والتعليم والسياسة الخارجية. أما الاقتصاد فسوف سيكون حاضرا كالمعتاد بطبيعة الحال، لكن من المتوقع أن يستخدمه ترامب لإبراز إنجازاته في هذا المجال، فيما سيجد المرشح الديمقراطي صعوبة في التركيز عليه.
الموقف من الهجرة والمهاجرين
سوف يفرض هذا الملف نفسه على مرشحي الحزبين. ليس فقط بسبب وجود أكثر من 10 ملايين مهاجر غير قانوني في الولايات المتحدة، والمشاكل على الحدود الجنوبية مع المكسيك، وإنما أيضا بسبب أن الرئيس الحالي قد جعله إحدى القضايا الرئيسية في حملته الانتخابية.
تقليديا فإن الحزب الديمقراطي أقل شدة في التعامل مع قضايا الهجرة والمهاجرين من الحزب الجمهوري، وهناك دعوات لتسوية أوضاعهم ومنحهم طريقا نحو الجنسية. وهذا الاختلاف في التعامل يعود في جانب منه، إلى أن غالبية القادمين الجدد عادة ما يصوتون للحزب الديمقراطي، فهم أصوات محتملة في أية انتخابات تلي حصولهم على الجنسية، وهو أمر يعرفه الجمهوريون ولذلك يسعون إلى المماطلة والتشدد في هذه المسألة.
لكن الذهاب بعيدا في التساهل في قضية الهجرة، من قبيل عدم تجريم الذين يعبرون الحدود بصورة غير قانونية، أو العجز عن وضع حل جاد لمشكلة الحدود، أو عدم أخذ الجانب الأمني ومكافحة التهريب والعصابات في الحسبان، قد تكلف أي مرشح ديمقراطي خسارة الكثير من أصوات المستقلين، خاصة أولئك الذين يعيشون في ولايات جمهورية.
فرغم الانتقادات التي توجه للتشدد التي تنتهجه الإدارة الحالية تجاه المهاجرين والإجراءات غير الإنسانية ضد العائلات، إلا أن ذلك لا يعني أيضا التسامح مع خرق القانون أو الظهور بمظهر الضعف والتهاون في قضية الهجرة.
مشكلة التأمين الصحي
ليس من قبيل المبالغة القول بأن صناعة التأمين الصحي في الولايات المتحدة هي الأكبر من بين القطاعات الأخرى، حيث يبلغ حجم اقتصاد هذه الصناعة مئات مليارات الدولارات، وهي توظف، بشكل أو بآخر، الملايين من الأميركيين.
لذلك، فإن مطالبة بعض الديمقراطيين بالتخلص من هذا القطاع وتحويله إلى قطاع عام، يبدو غير منطقي، وغير قابل للتطبيق في المدى المنظور على الأقل. صحيح أن هذا القطاع تغوّل كثيرا في السنوات الماضية وباتت الأموال التي تصرف على التأمين الصحي، سواء من جانب الحكومة أو المؤسسات الخاصة، تشكل عبئا ماليا هائلا، إلا أن الحلول ليست سهلة.
فصناعة "الطبابة" في بلد مثل الولايات المتحدة مسألة معقدة جدا. فهناك ثلاثة أطراف رئيسية لهذه الصناعة، وهي شركات التأمين والجهاز الطبي (عيادات ومستشفيات) وصناعة الأدوية. ولكل طرف وضعه التشريعي الخاص به، باستثناء القطاع الطبي الذي يبدو غير خاضع لأية رقابة في الجانب المتعلق بالأسعار، فيما يحتاج الطرفان الآخران إلى المزيد من التدقيق والمزيد من التشدد في التشريعات، وخاصة قطاع صناعة الدواء.
قد يكون أحد الحلول هو إتاحة المزيد من الخيارات أمام المواطنين، مثل السماح بوجود بديل حكومي إلى جانب القطاع الخاص، والبناء على المكاسب التي حققها "أوباما كير" وإصلاح العيوب التي شابته.
أما الحديث عن تأمين صحي شامل أو حكومي، فرغم جاذبيته، لا يبدو واقعيا، خاصة أنه في حال أريد الحفاظ على مستوى الخدمات الصحية المقدمة حاليا، فسوف يتعين التفكير من أين سيتم تسديد تكلفة ذلك كله والطريقة التي سيتم بها هذا التحول وكيفية التعامل مع البيروقراطية العقيمة؟
أخيرا، ثمة قضية تبدو غائبة حتى الآن عن الحملة الانتخابية، رغم أهميتها، وهي كيفية إصلاح أو التقليل من حجم الانقسام السائد اليوم في الولايات المتحدة بين الجمهوريين والديمقراطيين. هذا الانقسام ضار ومعرقل لعمل أجهزة الحكومة والكونغرس. وهو يسمم الأجواء ويخلق حال من التنافر والاستقطاب غير الصحي، وهو بالتأكيد بحاجة إلى حل وإلى اهتمام جاد من جانب المرشحين.
اقرأ للكاتب أيضا: "نظرية المؤامرة" والمهدئات العقلية!
ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).