السناتور كامالا هاريس ونائب الرئيس الأميركي السابق جو بايدن خلال المناظرة الثانية لمرشحي الحزب الديمقراطي
السناتور كامالا هاريس ونائب الرئيس الأميركي السابق جو بايدن خلال المناظرة الثانية لمرشحي الحزب الديمقراطي

عمران سلمان/

بعد أشهر قليلة سوف تزداد أجواء حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية سخونة، مع اقتراب الانتخابات التمهيدية للحزبين الديمقراطي والجمهوري. وفي حين لن تشهد تمهيديات الحزب الجمهوري، كما هو متوقع، اهتماما كبيرا، على اعتبار أن الرئيس هو المرشح الرسمي للحزب، فإنها على الجانب الديمقراطي سوف تكون حامية الوطيس مع وجود أكثر من عشرين مرشحا يتعين اختيار واحد منهم فقط.

التمركز في الوسط

وعمليا فإن كل توقع الآن بشأن الأوفر حظا للفوز بالرئاسة عام 2020، سيكون مبكرا، ولا يمكن الحديث عنه على وجه الدقة، لكن نظريا يمكن القول إنه مع استمرار تحسن حالة الاقتصاد الأميركي ومع غياب أي تميز أو ما هو ملفت لدى المتنافسين الديمقراطيين على ترشيح حزبهم، تبدو حظوظ الرئيس الحالي دونالد ترامب في الفوز بولاية ثانية أكثر من خمسين بالمئة على الأقل، وفق المراقبين.

وتاريخيا يحرص المرشحان المتنافسان على منصب الرئاسة عادة على التزام جانب الوسط في مواقفهما، ومقاومة إغراء الانجرار نحو اليمين أو اليسار، خاصة في القضايا الكبرى. وسبب ذلك أن الوسط يجعلهما جذابين لكتلة المستقلين، وهي كتلة كبيرة في أميركا، إضافة إلى أن التزام الوسط يمكنهما من قضم أطراف اليمين واليسار التي تضم المعتدلين من كلا الحزبين، ما يؤمن لهما الفوز في الانتخابات.

القضايا التي سوف تهيمن على هذه الانتخابات تحتاج إلى مقاربات وسطية

​​خلاف ذلك فإن الاعتماد على الكتلة الانتخابية الديمقراطية أو الجمهورية لوحدها لا يضمن الفوز لأي رئيس.

حاليا ثمة جنوح نحو اليسار في مواقف معظم المتنافسين الديمقراطيين (مع اختلاف في الدرجة)، وهو أمر يمكن تفهمه لأنه موجه نحو قواعد الحزب الديمقراطي (وتحديدا لاستمالة تيار اليسار أو التيار التقدمي) مع شد الخطى نحو الانتخابات التمهيدية. لكن هذا الخطاب لا يصلح لحملة الانتخابات الرئاسية، ومن شأنه أن يمنح الرئيس ترامب فوزا سهلا على أي مرشح ديمقراطي.

فالقضايا التي سوف تهيمن على هذه الانتخابات تحتاج إلى مقاربات وسطية، سواء كانت قضية الهجرة والتأمين الصحي والتفاوت الاقتصادي والتعليم والسياسة الخارجية. أما الاقتصاد فسوف سيكون حاضرا كالمعتاد بطبيعة الحال، لكن من المتوقع أن يستخدمه ترامب لإبراز إنجازاته في هذا المجال، فيما سيجد المرشح الديمقراطي صعوبة في التركيز عليه.

الموقف من الهجرة والمهاجرين

سوف يفرض هذا الملف نفسه على مرشحي الحزبين. ليس فقط بسبب وجود أكثر من 10 ملايين مهاجر غير قانوني في الولايات المتحدة، والمشاكل على الحدود الجنوبية مع المكسيك، وإنما أيضا بسبب أن الرئيس الحالي قد جعله إحدى القضايا الرئيسية في حملته الانتخابية.

تقليديا فإن الحزب الديمقراطي أقل شدة في التعامل مع قضايا الهجرة والمهاجرين من الحزب الجمهوري، وهناك دعوات لتسوية أوضاعهم ومنحهم طريقا نحو الجنسية. وهذا الاختلاف في التعامل يعود في جانب منه، إلى أن غالبية القادمين الجدد عادة ما يصوتون للحزب الديمقراطي، فهم أصوات محتملة في أية انتخابات تلي حصولهم على الجنسية، وهو أمر يعرفه الجمهوريون ولذلك يسعون إلى المماطلة والتشدد في هذه المسألة.

لكن الذهاب بعيدا في التساهل في قضية الهجرة، من قبيل عدم تجريم الذين يعبرون الحدود بصورة غير قانونية، أو العجز عن وضع حل جاد لمشكلة الحدود، أو عدم أخذ الجانب الأمني ومكافحة التهريب والعصابات في الحسبان، قد تكلف أي مرشح ديمقراطي خسارة الكثير من أصوات المستقلين، خاصة أولئك الذين يعيشون في ولايات جمهورية.

فرغم الانتقادات التي توجه للتشدد التي تنتهجه الإدارة الحالية تجاه المهاجرين والإجراءات غير الإنسانية ضد العائلات، إلا أن ذلك لا يعني أيضا التسامح مع خرق القانون أو الظهور بمظهر الضعف والتهاون في قضية الهجرة.

مشكلة التأمين الصحي

ليس من قبيل المبالغة القول بأن صناعة التأمين الصحي في الولايات المتحدة هي الأكبر من بين القطاعات الأخرى، حيث يبلغ حجم اقتصاد هذه الصناعة مئات مليارات الدولارات، وهي توظف، بشكل أو بآخر، الملايين من الأميركيين.

لذلك، فإن مطالبة بعض الديمقراطيين بالتخلص من هذا القطاع وتحويله إلى قطاع عام، يبدو غير منطقي، وغير قابل للتطبيق في المدى المنظور على الأقل. صحيح أن هذا القطاع تغوّل كثيرا في السنوات الماضية وباتت الأموال التي تصرف على التأمين الصحي، سواء من جانب الحكومة أو المؤسسات الخاصة، تشكل عبئا ماليا هائلا، إلا أن الحلول ليست سهلة.

فصناعة "الطبابة" في بلد مثل الولايات المتحدة مسألة معقدة جدا. فهناك ثلاثة أطراف رئيسية لهذه الصناعة، وهي شركات التأمين والجهاز الطبي (عيادات ومستشفيات) وصناعة الأدوية. ولكل طرف وضعه التشريعي الخاص به، باستثناء القطاع الطبي الذي يبدو غير خاضع لأية رقابة في الجانب المتعلق بالأسعار، فيما يحتاج الطرفان الآخران إلى المزيد من التدقيق والمزيد من التشدد في التشريعات، وخاصة قطاع صناعة الدواء.

الاعتماد على الكتلة الانتخابية الديمقراطية أو الجمهورية لوحدها لا يضمن الفوز لأي رئيس

​​قد يكون أحد الحلول هو إتاحة المزيد من الخيارات أمام المواطنين، مثل السماح بوجود بديل حكومي إلى جانب القطاع الخاص، والبناء على المكاسب التي حققها "أوباما كير" وإصلاح العيوب التي شابته.

أما الحديث عن تأمين صحي شامل أو حكومي، فرغم جاذبيته، لا يبدو واقعيا، خاصة أنه في حال أريد الحفاظ على مستوى الخدمات الصحية المقدمة حاليا، فسوف يتعين التفكير من أين سيتم تسديد تكلفة ذلك كله والطريقة التي سيتم بها هذا التحول وكيفية التعامل مع البيروقراطية العقيمة؟

أخيرا، ثمة قضية تبدو غائبة حتى الآن عن الحملة الانتخابية، رغم أهميتها، وهي كيفية إصلاح أو التقليل من حجم الانقسام السائد اليوم في الولايات المتحدة بين الجمهوريين والديمقراطيين. هذا الانقسام ضار ومعرقل لعمل أجهزة الحكومة والكونغرس. وهو يسمم الأجواء ويخلق حال من التنافر والاستقطاب غير الصحي، وهو بالتأكيد بحاجة إلى حل وإلى اهتمام جاد من جانب المرشحين.

اقرأ للكاتب أيضا: "نظرية المؤامرة" والمهدئات العقلية!

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.