اعتصام في بيروت دعما في لحرية الرأي ورفضا لمنع فرقة "مشروع ليلى" من الغناء
اعتصام في بيروت دعما في لحرية الرأي ورفضا لمنع فرقة "مشروع ليلى" من الغناء

فارس خشّان/

النص

"أجبرت اللجنة على إيقاف حفلة مشروع ليلى، منعا لإراقة الدماء وحفاظا على الأمن والاستقرار".

التوقيع

لجنة مهرجانات بيبلوس الدولية.

المناسبة

في التاسع من أغسطس الجاري كان مقررا أن تحيي فرقة "مشروع ليلى" حفلا غنائيا، في مدينة جبيل التاريخية في لبنان، التي منها حمل قدموس الأبجدية الفينيقية ونشرها في الأرجاء اليونانية، ولكنّ ناشطين مسيحيين طالبوا بإلغاء الحفلة مهددين باللجوء إلى العنف في حال لم تستجب اللجنة المنظمة لمطلبهم.

وقد اتهم هؤلاء، بدعم من مؤسسات كنسية وأحزاب سياسية مسيحية، الفرقة بأنها تهين المقدسات المسيحية وتشجع المثلية الجنسية، وهو ما نفته الفرقة، مرارا وتكرارا، الأمر الذي تكرّس قضائيا. إذ أن النيابة العامة، التي وضعت يدها على الموضوع، لم تجد في أعمال الفرقة أي خرق للقوانين المرعية الإجراء، ولكن في المقابل، فإن هذه النيابة العامة، بدت كأنها غسلت يدها من موضوع التهديدات، بحيث لم تلتزم السلطات الأمنية المعنية توفير حماية للحفلة الغنائية، دفاعا عن حرية التعبير التي هي من أسس الحريات العامة. 

إرهاب

يشير النص الذي نشرته "لجنة مهرجانات بيبلوس الدولية" إلى أن هناك جهات هددت، في حال الإبقاء على حفلة "مشروع ليلى"، بسفك الدماء واللجوء إلى العنف.

ويفهم منه بأن مصادر هذه التهديدات ليست مجرد صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، بل هي جهات تملك القدرة التنفيذية، على اعتبار أن كل تهديد يصدر عن جهة عاجزة عن ترجمته إلى أفعال، لا يُعتد به، فخطورة الكلام لا تكمن بمضامينه بل بهوية مطلقه وقدراته.

ظهرت المؤسسة المسيحية اللبنانية بصورة مغايرة للسمعة التي كانت تتمتع بها

​​وهذا يعني أن الجهات التي أخافت اللجنة واضطرتها لاتخاذ قرار المنع هي جهات فعّالة، قادرة على تحريك الأشخاص وعلى توفير ما يلزمهم لاعتماد العنف الدموي. وإذا ما جرى توصيف التهديدات، وفق القوانين اللبنانية ووفق المعايير الدولية، فهي تنطبق على جرم الإرهاب.

وهذا يعني أن السلطات اللبنانية ناصرت فئة إرهابية، فأبقتها مجهولة الهوية، ولم تتصد لها، ولم تناصر المستهدَف ولم تتعهّد بحمايتها، بل سمحت لها أن تُحقق أهدافها.

وسمح هذا السلوك السلطوي لبعض المفكرين والناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي بالذهاب إلى حدود وصف الجهات التي هددت بأنها "داعش مسيحي"، وإلى حدود اعتقاد البعض بأنه أضحى في لبنان "أبو بكر الجبيلي" تيمنا بأبي بكر البغدادي.

صدمة مسيحية

قدّم مسيحيو لبنان أنفسهم على أنهم حماة الحريات العامة وعلى أنهم أهم ركيزة للمجتمع المدني، وعلى أنهم استطاعوا أن يقيموا علاقة عمودية بالله تحرر المجتمع من القيود التي تتسبب بها العلاقة الأفقية.

وحصل كثير من الخروق لهذه الصورة في أوقات سابقة، كالوقوف وراء المديرية العامة للأمن العام لحظر كتاب أو فيلم أو مسرحية أو أغنية.

ولكن هذه الخروق بقيت ضجتها مضبوطة، إذ أن "الأمن العام" كان يتحمّل المسؤولية، خلافا لما حصل هذه المرة بمناسبة مهرجانات جبيل.

وأحدث التعاطي المسيحي مع فرقة "مشروع ليلى" صدمة حقيقية، إذ بدا أن الكنيسة هي التي تقود الأحزاب وتحل مكان السلطة وتسكت على من يهددوا بسفك الدماء والمس بالاستقرار.

وظهرت المؤسسة المسيحية اللبنانية، هذه المرة، بصورة مغايرة كليا للسمعة التي كانت تتمتع بها في المجتمع اللبناني، ذلك أنها تصمت على التهديد العنفي والدموي، وتسد آذانها دون الاستماع إلى ما يقوله "المتهم"، حتى بدا أن الحكم الذي تصدره في مكاتبها المغلقة، هو حكم مبرم لا يقبل أي طريق من طرق المراجعة، مثلها مثل محاكم التفتيش التي اشتهرت بها القرون الوسطى في أوروبا، حيث كان "المتهم" أمام حل من إثنين، إما المحرقة وإما الندم على ما قاله أو فعله أو اكتشفه.

السلطات اللبنانية ناصرت فئة إرهابية، فأبقتها مجهولة الهوية

​​وأكثر ما يلفت الانتباه في هذا الصدد تلك النظريات التي ملأت الفضاء اللبناني المسيحي مؤخرا ومفادها أنه يحق لك أن تكون ملحدا ولكن لا يحق لك أن تمس بمعتقدات الآخرين، بمعنى آخر تستطيع أن تكون ملحدا شرط أن تبقى صامتا، أي أن تفقد حقك بالتعبير في المسائل الدينية، فلا تعبّر عن الأسباب التي دفعتك إلى اعتناق الإلحاد، في حين يحق لأصحاب هذه النظريات أن يملؤوا المقرات الدينية والأكاديمية والثقافية والإعلامية عظات وتبشيرا.

وهذا يعني، ولو كاريكاتوريا، أن ما سبق وقيل عن عدم مواءمة الدين الإسلامي للديمقراطية، بمناسبة ظهور تنظيمات راديكالية إرهابية، مثل "القاعدة" و"داعش"، يصح أيضا على الدين المسيحي، وفق آخر تطبيقاته اللبنانية، ذلك أن من القواعد التأسيسية للديمقراطية يحضر الحق بالتعبير ليس عمّا تؤمن به فقط بل عمّا لا تؤمن به أيضا.

مشروعية النص المسيحي

ولكن من أين أتت مشروعية المنع والتهديد؟

يرفض النص الإنجيلي إدانة البشر للبشر ("من منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر") ويحظّر الرد على الإساءة بإساءة ("من ضربك على خدّك الأيمن أدر له الأيسر") وينهي عن اللجوء إلى السيف ("من يأخذ بالسيف بالسيف يؤخذ").

إلا أن مبرري العنف يعتمدون على ضرب المسيح للتجّار في الهيكل لأنهم حولوه إلى "مغارة لصوص"، وتاليا فهم، حين يرتأون، يحوّلون كل مكان إلى "هيكل الله": المطابع، المكتبات، دور السينما، المسارح، وسائل الإعلام و...الحبل على الجرار.

في حين أن "بيت الله" الذي هو "بيت الصلاة يدعى" معروفة مواصفاته. على أيام السيد المسيح كان "الهيكل" في أورشليم. اليوم هو الكنيسة.

واللصوص الذي انتفض عليهم السيد المسيح هم أولئك الذين يستفيدون من "بيت الله" من أجل أن يتاجروا ويحققوا المكاسب.

وفي اعتماد هذا التبرير، فإن عيون المسيحيين المتأثرين بسيّدهم السماوي، يفترض أن تذهب إلى الأماكن الصحيحة.

فرقة "مشروع ليلى" لم تسء إلى الدين المسيحي في لبنان، إنما هؤلاء الذين تصدوا لها

​​إذن، لا يعتمد هؤلاء العنفيون على أقوال المسيح في ادعاء دفاعهم عن المعتقدات المسيحية، إنما على مصادر أخرى.

والمصادر الأخرى ليست دينية، بل هي قبل أي شيء آخر سياسية، بحيث يحاول من فقد سطوته على المجتمع أن يستردها بالتعنيف والتهديد والمنع، مستفيدا من طيبة عامة الناس وتعلقهم بدينهم والانصياع إلى رعاتهم.

في ضوء هذه العناوين المنتقاة لمعالجة هذا الموضوع، يتضح بأنّ فرقة "مشروع ليلى" لم تسء إلى الدين المسيحي في لبنان، حتى لو صحّ ما نفته ونفاه القضاء، إنما هؤلاء الذين تصدوا لها، فألحقوا ضررا كبيرا بدين المحبة والتسامح وسيّده المصلوب، وضمّوا المسيحية إلى قائمة الأديان "المعادية للديمقراطية"، وشوّهوا صورة جماعتها اللبنانية التي برزت رائدة الدفاع عن الحريات العامة والدولة المدنية.

اقرأ للكاتب أيضا: الفن والسياسة و... الدين

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.