بالأمس خصص مجلس الأمن الدولي جلسة للاستماع إلى عائلات الضحايا والمختفين قسرا في سوريا. حضرت السيدة آمنة خولاني، وهي سجينة سابقة لدى النظام، وزوجها أيضا، ولها شقيقان قتلا في السجن، وزود النظام عائلتها بشهادتي وفاة لهما، أما شقيقها الثالث، فعثرت على صورته جثة، بما بات يعرف بـ"وثائق قيصر". كلام السيدة كان في مجلس الأمن، الهيئة الدولية الأولى التي من المفترض أن تجري فيها عملية إعادة تأهيل النظام في سوريا.
الأمر محير فعلا. نحن هنا لا نتحدث عن المستوى الأخلاقي لهذه الفعلة، أي "تأهيل النظام"، إنما عن المعنى العملي، ذاك أن وجود بشار الأسد في نصاب دولي يمتلك شرعية بحجم شرعية مجلس الأمن، أمر لا يبدو عمليا، وفي موازاة العمل على "تأهيل النظام"، ثمة عمل على جعل المهمة مستحيلة. السؤال البديهي هو كيف سيصرف العالم الذي استمع بالأمس إلى هذه السيدة السورية صورة الرئيس المستعاد؟
قد ينطوي السؤال على سذاجة، وقد يُجاب عنه بحقيقة أن هذا العالم سبق أن هضم أنظمة ديكتاتورية مارست ما يشبه ممارسة النظام في سوريا. لكن السذاجة تأخذنا إلى حقيقة أخرى، وهي أن النظام في دمشق مارس قتلا معلنا، ولم يبذل جهدا لإخفاء وجوه ضحاياه. وثائق قيصر تثبت ذلك، وآلاف الوثائق الأخرى والأشرطة المصورة والشهود من داخل النظام ومن خارجه. العالم كله شهد ذلك، والعالم لم يصمت، إلا أنه يسعى اليوم للتراجع عن ذهوله، وهذا ما يبدو مذهلا بدوره.
السؤال محير! هل تجري فعلا عملية لإعادة تأهيل النظام في سوريا؟ كيف ستنجح هذه العملية؟ هل يكفي النصر العسكري لكي يقبل العالم بأن شهادة السيدة خولاني لا قيمة لها وأن وثائق قيصر لن يكون لها دور في تقييم مجلس الأمن لواقعية قرار من نوع "تأهيل النظام"؟
"إنه الفيتو الروسي"، هذا جواب يمكن أن يُنقذ مندوب فرنسا في مجلس الأمن. الجواب لا يكفي فعلا، فهذه مسؤولية العالم حيال نفسه، ومسؤولية فرنسا حيال نفسها وليس حيال السوريين. وإلا لماذا تمت دعوة السيدة للاستماع لها في مجلس الأمن؟ ثمة حلقة مفقودة هنا. من جهة، جهد دولي لتعويم النظام، ومن جهة أخرى وقائع ثقيلة وموثقة يجري حشدها لمستوى جريمته، لإيقاعنا في هذه الحيرة الأخلاقية الهائلة.
"إنها الهزيمة التي أصابت خصومه"، قد يجيب عضو آخر في مجلس الأمن على سؤال "تأهيل النظام"، وهذا صحيح إلا أنه لا يكفي. خصوم النظام، المسلحين، كانوا غير كفوئين، ومرتهنين وطائفيين وفاسدين. لكن هل هذا مبرر لكي نقبل بجريمة بهذا الحجم، وعلى هذا القدر من الوضوح؟
يمر وقت نقبل فيه بالهزيمة، ونعترف بفشلنا، ويبدأ اليأس بالتسلل إلى قناعاتنا، إلى أن يُقدم مجلس الأمن على صفعنا بمشهد من نوع مشهد خولاني، فتشطب وجوهنا بحكاية واحدة، حكاية صغيرة من بين آلاف الحكايات عن الموت في ذلك البلد.
من يريد أن يعيد تأهيل النظام في سوريا، يريد منا أن نقبل بأن القتل أمر عادي، وأن الجريمة جزء من مستقبلنا، ولها مكان، مثلها مثل العمل والتعليم والزواج والطلاق. الجريمة عادية والجميع قبل بها. هذا ما يمكن أن نفسر به دعوة مجلس الأمن لشاهدة على جريمة يجري إعادة تأهيل مرتكبها.
العالم لا يمكن أن يكون انتقائيا في قبوله بالجريمة. أن تقبل بقاتل أشقاء السيدة خولاني، فيجب عليك أن تقبل بقاتل آخر. "داعش" جرى سحقه لأنه مجرم من هذا الوزن. لم يملك لغة أخرى غير الجريمة ليخاطب بها أهل هذا الكوكب، فنشأ تحالف للقضاء عليه. لنتخيل حجم الخلل الأخلاقي فيما لو جاء من يملك حق النقض الفيتو على قرار بالقضاء على "داعش!".
إذا كان الخبر اليومي السوري قد تحول مع مرور كل هذا الوقت إلى خبرٍ عادي مشابه لخبر اليوم الذي سبقه، فإن قصة الخبر لا يمكن أن تصبح عادية، ذاك أننا حيال مئات الآلاف من الحكايات، لا تشبه إحداها الأخرى، وهي تفضي جميعها إلى فضحنا نحن الناجين من وجه الجلاد، تماما مثلما فضحت حكاية خولاني مندوبي الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن.
وهنا نعود إلى السؤال الأول: لماذا تمت دعوة هذه السيدة للإدلاء بشهادتها، طالما أن لا سياق لتحويل شهادتها إلى إدانة للنظام؟ لماذا هذا الإصرار على كشف الجريمة وعلى قبول المجرم؟
اقرأ للكاتب أيضا: وهم "الكملك"
ـــــــــــــــــــــالآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).