السيدة آمنة خولاني والطبيبة هالة الغاوي
السيدة آمنة خولاني والطبيبة هالة الغاوي

حازم الأمين/

بالأمس خصص مجلس الأمن الدولي جلسة للاستماع إلى عائلات الضحايا والمختفين قسرا في سوريا. حضرت السيدة آمنة خولاني، وهي سجينة سابقة لدى النظام، وزوجها أيضا، ولها شقيقان قتلا في السجن، وزود النظام عائلتها بشهادتي وفاة لهما، أما شقيقها الثالث، فعثرت على صورته جثة، بما بات يعرف بـ"وثائق قيصر". كلام السيدة كان في مجلس الأمن، الهيئة الدولية الأولى التي من المفترض أن تجري فيها عملية إعادة تأهيل النظام في سوريا.

الأمر محير فعلا. نحن هنا لا نتحدث عن المستوى الأخلاقي لهذه الفعلة، أي "تأهيل النظام"، إنما عن المعنى العملي، ذاك أن وجود بشار الأسد في نصاب دولي يمتلك شرعية بحجم شرعية مجلس الأمن، أمر لا يبدو عمليا، وفي موازاة العمل على "تأهيل النظام"، ثمة عمل على جعل المهمة مستحيلة. السؤال البديهي هو كيف سيصرف العالم الذي استمع بالأمس إلى هذه السيدة السورية صورة الرئيس المستعاد؟

من يريد أن يعيد تأهيل النظام في سوريا، يريد منا أن نقبل بأن القتل أمر عادي

​​قد ينطوي السؤال على سذاجة، وقد يُجاب عنه بحقيقة أن هذا العالم سبق أن هضم أنظمة ديكتاتورية مارست ما يشبه ممارسة النظام في سوريا. لكن السذاجة تأخذنا إلى حقيقة أخرى، وهي أن النظام في دمشق مارس قتلا معلنا، ولم يبذل جهدا لإخفاء وجوه ضحاياه. وثائق قيصر تثبت ذلك، وآلاف الوثائق الأخرى والأشرطة المصورة والشهود من داخل النظام ومن خارجه. العالم كله شهد ذلك، والعالم لم يصمت، إلا أنه يسعى اليوم للتراجع عن ذهوله، وهذا ما يبدو مذهلا بدوره.

السؤال محير! هل تجري فعلا عملية لإعادة تأهيل النظام في سوريا؟ كيف ستنجح هذه العملية؟ هل يكفي النصر العسكري لكي يقبل العالم بأن شهادة السيدة خولاني لا قيمة لها وأن وثائق قيصر لن يكون لها دور في تقييم مجلس الأمن لواقعية قرار من نوع "تأهيل النظام"؟

"إنه الفيتو الروسي"، هذا جواب يمكن أن يُنقذ مندوب فرنسا في مجلس الأمن. الجواب لا يكفي فعلا، فهذه مسؤولية العالم حيال نفسه، ومسؤولية فرنسا حيال نفسها وليس حيال السوريين. وإلا لماذا تمت دعوة السيدة للاستماع لها في مجلس الأمن؟ ثمة حلقة مفقودة هنا. من جهة، جهد دولي لتعويم النظام، ومن جهة أخرى وقائع ثقيلة وموثقة يجري حشدها لمستوى جريمته، لإيقاعنا في هذه الحيرة الأخلاقية الهائلة.

"إنها الهزيمة التي أصابت خصومه"، قد يجيب عضو آخر في مجلس الأمن على سؤال "تأهيل النظام"، وهذا صحيح إلا أنه لا يكفي. خصوم النظام، المسلحين، كانوا غير كفوئين، ومرتهنين وطائفيين وفاسدين. لكن هل هذا مبرر لكي نقبل بجريمة بهذا الحجم، وعلى هذا القدر من الوضوح؟

يمر وقت نقبل فيه بالهزيمة، ونعترف بفشلنا، ويبدأ اليأس بالتسلل إلى قناعاتنا، إلى أن يُقدم مجلس الأمن على صفعنا بمشهد من نوع مشهد خولاني، فتشطب وجوهنا بحكاية واحدة، حكاية صغيرة من بين آلاف الحكايات عن الموت في ذلك البلد.

من يريد أن يعيد تأهيل النظام في سوريا، يريد منا أن نقبل بأن القتل أمر عادي، وأن الجريمة جزء من مستقبلنا، ولها مكان، مثلها مثل العمل والتعليم والزواج والطلاق. الجريمة عادية والجميع قبل بها. هذا ما يمكن أن نفسر به دعوة مجلس الأمن لشاهدة على جريمة يجري إعادة تأهيل مرتكبها.

العالم كله شهد ذلك، والعالم لم يصمت، إلا أنه يسعى اليوم للتراجع عن ذهوله

​​العالم لا يمكن أن يكون انتقائيا في قبوله بالجريمة. أن تقبل بقاتل أشقاء السيدة خولاني، فيجب عليك أن تقبل بقاتل آخر. "داعش" جرى سحقه لأنه مجرم من هذا الوزن. لم يملك لغة أخرى غير الجريمة ليخاطب بها أهل هذا الكوكب، فنشأ تحالف للقضاء عليه. لنتخيل حجم الخلل الأخلاقي فيما لو جاء من يملك حق النقض الفيتو على قرار بالقضاء على "داعش!".

إذا كان الخبر اليومي السوري قد تحول مع مرور كل هذا الوقت إلى خبرٍ عادي مشابه لخبر اليوم الذي سبقه، فإن قصة الخبر لا يمكن أن تصبح عادية، ذاك أننا حيال مئات الآلاف من الحكايات، لا تشبه إحداها الأخرى، وهي تفضي جميعها إلى فضحنا نحن الناجين من وجه الجلاد، تماما مثلما فضحت حكاية خولاني مندوبي الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن.

وهنا نعود إلى السؤال الأول: لماذا تمت دعوة هذه السيدة للإدلاء بشهادتها، طالما أن لا سياق لتحويل شهادتها إلى إدانة للنظام؟ لماذا هذا الإصرار على كشف الجريمة وعلى قبول المجرم؟

​​​اقرأ للكاتب أيضا: وهم "الكملك"

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.