تستمد فكرة استخدام القوة عند الإخوان المسلمين مشروعيتها من المفاهيم والتصورات والعقائد التي قامت عليها الجماعة (أرشيف)

حين نتأمل طريقة عمل جماعة الإخوان المسلمين وقدراتها التنفيذية يتضح لنا أننا نواجه جماعة أخطر مما نتصور ومما يدرك الكثيرون. ÷هي جماعة منتشرة في جميع بقاع الأرض تقريبا، ولديها القدرة على التكيف والتحول لتحقيق الهدف الأساسي، أي السيطرة على العالم في دولة "الخلافة الإسلامية"، التي تؤمن بها الجماعة.

ويساعد الإخوان في تنفيذ حلمهم هذا أنهم يتحركون بصورة تدريجية، ففي مراحل حكمهم الأولى يكتفون بالدعوة والمشاركة، وبمجرد وصولهم لدرجة كافية من القوة يظهرون مبدأ "المغالبة" (بالقوة)، ثم "التمكين" أي السيطرة المطلقة على الشعوب، وذلك ببساطة يعني أنه من الصعب على البعض ـ إن لم يكن الكثيرين ـ إدراك حقيقتهم حتى مرحلة متأخرة والتي قد تكون بعد فوات الأوان.

وفي النقاط العشر التالية سأتطرق لقدرات هذه الجماعة الفكرية، وقدراتها التنفيذية والتي قد تفوق تصور الكثيرين.

القدرة على تغيير "شكل المجتمع"

استطاع الإخوان تغيير شكل كل المجتمعات الإسلامية تقريبا، بعد دعوتهم المحمومة لحجاب النساء، فبعد أن كان من المستحيل التفرقة بين المسلمين والمسيحيين واليهود أصبحت معظم النساء المسلمات محجبات، وتم إعطاء صبغة جديدة لمجتمعات ودول تفوق المليار نسمة. ولا يمكن أن ننسى هنا كيف أن المطلب الأساسي الذي طلبه مرشد الإخوان حينما قابل الزعيم الراحل جمال عبد الناصر كان هو "تحجيب النساء"!.

تغير مفردات اللغة المستخدمة

لا يمكننا نسيان أن الشعب المصري على سبيل المثال تقريبا نسى الكثير من المفردات التي كان يستخدمها، واستطاع "الإخوان" استبدال هذه الكلمات المعروفة بأخريات ذات بعد إسلامي. فتم استبدال "السلام عليكم" بـدل "مساء الخير"، و"جزاك الله خيرا" بدل "شكرا"، و "لا إله إلا الله" بدلا من "سعيدا" و"باي باي"، ومما لا شك فيه أن تغير مفردات أساسية وتاريخية في المجتمع في غضون بضعة عقود فقط هي قدرة تفوق التصور.

تغيير الاحتفالات المجتمعية

استطاع "الإخوان" في فترة زمنية محدودة أن يجعلوا عشرات الملايين يحتفلون بـ"العقيقة" بدلا من "السبوع" (الاحتفاء بالمولود الجديد بعد أسبوع من ولادته)! وحينما ندرك أن احتفالات الشعوب هو شيء تم توارثه عبر مئات السنين (إن لم يكن لآلاف!)، وليس من السهل تغييره ندرك مدى قدرة "الإخوان" في السيطرة على عقول الناس باستخدام الدين.

مؤسس تنظيم "الإخوان المسلمين" حسن البنا

تغيير اهتمامات الشعوب

فعلى سبيل المثال لا الحصر استطاع "الإخوان" في بضعة عقود تغيير اهتمام الكثيرين من "الثقافة" و"الموضة" و"الفن" إلى قراءة كتب الفقه والاستماع إلى أو مشاهدة برامج شيوخ التطرف. وأصبحت الكثير من المناقشات إن لم يكن أغلبها تدور حول أمور فقهية مثل "هل إظهار وجه المرأة حلال أم حرام"! و"هل السلام على المرأة ينقض الوضوء أم لا؟".

تغيير المفاهيم الدينية

كان من أخطر ما فعله "الإخوان" في العالم الإسلامي في العقود الماضية هو تغيير مفهوم الدين البسيط والجميل من محبة الله ومساعدة الآخرين إلى أيديولوجية تفهم الدين بحرفية تحبط العقل والضمير، وتجعل الطقوس الحركية أو أداء العبادات أهم من نقاء القلوب. فبعد أن كان الحكم على الناس بأعمالهم أصبح الحكم بهل هم ملتزمون بالحجاب وبأداء حركات الصلاة أم لا، وأصبح أداء الحج والعمرة مرات عديدة أهم من "ربك رب قلوب"، وكان هذا التغير كارثيا وجعل "الإخوان" وأعوانهم يسيطرون على المشهد الديني تماما.

استخدام الدين للسيطرة على المال

من العوامل الرئيسية التي ساعدت "الإخوان" على فرض سيطرتهم الفكرية والدينية في أنحاء كثيرة بالعالم قدرتهم على استخدام الدين لجمع المال، فهم من جعل الكثيرين يعرضون عن بنوك الدولة بحجة أنها "ربا"، وبالتالي يتجهون إلى بنوكهم الإسلامية لتمتلئ خزانة "الإخوان" وقادتهم بالمليارات من الدولارات مما ساعدهم على نشر فكرهم.

السيطرة على أوروبا

أدرك الإخوان أن السيطرة على أوروبا تكمن في السيطرة على المساجد والمراكز الإسلامية، وبالتالي السيطرة على قاعدة انتخابية إسلامية ضخمة تجعلهم قادرين على الضغط السياسي على الحكومات الغربية في أكثر من اتجاه.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد فحسب، بل وصل الأمر أنهم بسطوا نفوذهم بقوة على تركيا وقطر من خلال قيادتها الموالية لهم حتى يتمكنوا من التحكم في كمية الغاز الذي يصل إلى أوروبا من هذه الدول، وبالتالي يضغطوا على الحكومات الغربية لتنفيذ أجندتهم والتي قد تمكنهم في النهاية من الهيمنة على صناعة القرار في قارة بأكملها لتخدم مصالحهم وأهدافهم.

محاولة السيطرة على الولايات المتحدة الأميركية

أدرك "الإخوان" أن عدد المسلمين في أميركا لن يسمح لهم باستخدام نفس التكتيك الذي استخدموه في أوروبا، فعدد المسلمين في الولايات المتحدة لا يتجاوز الواحد في المئة، وهنا تتجلى خطورة الإخوان وقدرتهم الفائقة على التكيف، ففي أميركا تغير الأسلوب والتكتيك إلى عقد شراكة مع الليبراليين اليساريين لاستغلال قوتهم ونفوذهم في شتى المجالات، برغم اختلافهم المطلق معهم أيديولوجيا فـ"الإخوان" يريدون "دولة الشريعة" والليبراليون يناصرون الحريات الشخصية.

وهذا التناقض الصارخ لم يمنع "الإخوان" من التحالف معهم واستغلال عداوتهم للرئيس دونالد ترامب، وجهلهم بحقيقة "الإخوان المسلمين" حتى يصلوا في النهاية إلى تنفيذ مخططاتهم بإسقاط العديد من الأنظمة العربية وغيرها، واستبدالها بنظامهم الإسلامي.

القدرة على التعامل حتى مع الشيطان

ليس أدل على ذلك من التقارب "الإخواني" مع النظام الإيراني بالرغم من موقفهم السلبي جدا من المذهب الشيعي، والذي تجلى في تحريض قياداتهم على المصريين الشيعة مما تسبب في قتل عدد منهم، ولكن في قاموس مصالح "الإخوان"، فكل شيء يهون في سبيل السيطرة والتمكين حتى لو كان الأمر سيجعلهم يصادقون ألد أعدائهم، وقد تجلت هذه العلاقة الغريبة في أن "إيران الشيعية" كانت أول دولة تعترض بعد تركيا على اتجاه الإدارة الأميركية بتصنيف "الإخوان" كحركة إرهابية.

استخدام الإرهابيين لتنفيذ مخططهم

لا يحتاج الأمر إلى عبقرية لإدراك ارتباط "الإخوان" ببعض المنظمات الإرهابية، فهم الذين دعوا قاتلي الرئيس المصري الأسبق أنور السادات لحضور احتفالات حرب أكتوبر، وهم من فتح قصر الرئاسة في مصر وقت حكمهم على مصراعيه للكثير من المتطرفين الإسلاميين ودعاة الإرهاب.

ومن هذه النقاط يتضح لنا أنا نتعامل مع منظمة أخطبوطية تصل أذرعها لمعظم بقاع العالم، وتستخدم فهمها الديني للسيطرة على الشعوب، وهي كما رأينا أعلاه، قادرة على استخدام العديد من الوسائل لتحقيق أهدافها في السيطرة على العالم، وأقل ما يقال عنها أن خطورة "الأخطبوط الإخواني" تفوق تصور الكثيرين!

وللحديث بقية!

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.