531497 4

نيرڤانا محمود/

مطار إركان في قبرص الشمالية ليس كأي مطار آخر. كل الرحلات القادمة والمغادرة من هذا المطار تابعة لشركات طيران تركية، فقبرص الشمالية أو "التركية"، هي دولة لا تعترف بها أي دولة في العالم، باستثناء تركيا.

إن سبق لك زرت قبرص الشمالية وجلست في هذا المطار مثلما فعلت أنا، فستفهم ماذا تحاول أن تفعل تركيا الآن في ليبيا.

بعد 46 عاما من انقسام جزيرة قبرص والاحتلال التركي لجزئها الشمالي، تعيد تركيا نفس التجربة في ليبيا، ولكن بنكهة عثمانية.

لا تقتصر أطماع الرئيس التركي على الغاز والنفط، بل يطمح في إقامة منطقة نفوذ تركية في شمال أفريقيا، بناء على النموذج القبرصي. منطقه لا سلم فيها ولا حرب... وبالتأكيد لا أفق لحل شامل. منطقة معزولة عن واقعها الجغرافي، وتعتمد اعتمادا كليا على تركيا سياسيا واقتصاديا.

شمال قبرص هي مثال على قدرة تركيا على إحداث نوع من الشلل السياسي والعسكري

اعتمد الرئيس التركي على عدة أوراق لتحقيق السيناريو القبرصي في ليبيا. بداية عمد إلى كسب ود العديد من الشباب الليبي من خلال تحريك الحنين إلى ماضٍ قديم وهو ولفترة الحكم العثماني تحديدا. حنين يؤججه الإسلامويون بينما يزرعون نار الفرقة في المجتمع الليبي، بل ويشبهون قوات خليفة حفتر "بالقرامطة" الخوارج على الشرعية.

كما اعتمد إردوغان على توطيد صلاته بالليبيين المنحدرين من أصل تركي، وهم معروفون بالكراغلة، ومعظمهم يتمركزون في غرب ليبيا.

ثم جاء الدعم العسكري التركي المباشر لحكومة فايز السراج بعد أن وقع الطرفان اتفاقيتان للتعاون العسكري والبحري.

والتي تبعها إرسال الآلاف من المقاتلين السوريين للدفاع عن المناطق التي تسيطر عليها حكومة الوفاق تحت غطاء "حماية الشرعية" ضد "تمرد" المشير حفتر.

مهمة هذه الميليشيات هي خلق نموذج "أدلبي" في غرب ليبيا، كزرع الألغام والعبوات الناسفة وتفخيخ المباني، بهدف منع قوات الموالية لحفتر من التقدم في الأماكن المأهولة بالسكان في كل من طرابلس ومصراته.

على المستوي الدولي، يؤكد الرئيس التركي أنه يدعم حلا سياسيا في ليبيا، بل إنه وقع على البيان الختامي لمؤتمر برلين الذي يدعو بنده الخامس والعشرين إلى إنشاء مجلس رئاسي وتشكيل حكومة ليبية موحدة يصدق عليها مجلس النواب الليبي.

أي أن وثيقة برلين تربط أي حل سياسي بموافقة مجلس النواب الليبي، المعروف بولائه لخليفة حفتر. وهناك درجة من الارتياح العربي، خصوصا من الأطراف الداعمة للمشير خليفة حفتر، بنتائج مؤتمر برلين، التي يرونها تحجم الدور التركي في ليبيا.

ولكن توقيع الرئيس التركي على هذه الوثيقة، بصيغتها الواضحة، يهدف إلى دعم صورته كراع للسلام في ليبيا. ولكن على أرض الواقع، يعرف إردوغان جيدا، أن حلفاءه من الميليشيات في غرب ليبيا قد قطعوا "شعرة معاوية" التي كانت تربطهم بمجلس النواب الليبي ولن يقبلوا بأي تسوية مستقبلية يصادق عليها هذا المجلس.

أما زيارة الرئيس التركي للجزائر، ومن قبلها تونس، فإنها تهدف إلى إقناع الدولتين بانتهاج سياسة "حياد إيجابي" تجاه المعضلة الليبية، أو بمعنى آخر "إن لم تكونوا معنا فعلى الأقل لا تكونوا علينا". وذلك بهدف خلق شرايين حياة مستقبلية بين الكيان المتبلور في غرب ليبيا وجيرانهم في تونس والجزائر، إن لم يكن بصورة رسمية، فعلى الأقل بطرق غير رسمية.

مهمة الميليشيات السورية هي خلق نموذج "أدلبي" في غرب ليبيا

شمال قبرص هي مثال حي، من قلب أوروبا، على قدرة تركيا على إحداث نوع من الشلل السياسي والعسكري يخلق حالة من لا سلم ولا حرب تستمر لعقود.

فرص خلق نموذج قبرصي في ليبيا لا تعتمد بالضرورة على قدرة حلفاء إردوغان على تحقيق انتصارات ميدانية، بل على فشل الأطراف الدولية والعربية في منع الكيان الموالي لتركيا من التواجد في ليبيا.

كل ما يحتاجه إردوغان الآن هو الضغط على الأطراف الدولية في اجتماع جنيف المقبل لتثبيت وقف إطلاق النار في ليبيا، ولكنه وفي نفس الوقت، سيسعى جاهدا لإفشال محادثات السلام بين طرفي النزاع. فهو لن يسمح بتنفيذ أي اتفاق دولي يلزم حكومة السراج بنزع سلاح الميليشيات وأعاده المقاتلون السوريون إلى سوريا، مما سيفقد حكومة السراج شريعتها أمام المجتمع الدولي.

ومن ثم أي فشل لمؤتمر جنيف القادم في الوصول إلى تسوية سياسية تطبق على أرض الواقع سيؤدي إلى ولادة دويلة في طرابلس ومصراته، بنكهة قبرصية، تدين والولاء للزعيم التركي ـ رجب طيب إردوغان.

اقرأ للكاتب أيضا: "ممالك النار"... الصراع أبعد من مسلسل

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

حول مشروع إردوغان الليبي A82DB3BB-0095-411B-90B2-810237868F3A.jpg AFP حول-مشروع-إردوغان-الليبي وقعت حكومة فايز السراج مع تركيا اتفاقيتين للتعاون العسكري والبحري 2020-01-29 13:58:25 1 2020-01-29 14:16:25 0

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.