الكرة في ملعب محمود عباس. هذه الرسالة الأساسية من وراء "صفقة القرن" التي طال انتظارها، وأعلنتها الإدارة الأميركية يوم الثلاثاء، في مؤتمر صحفي مشترك بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو. كما هو متوقع، فإن الخطة مؤاتية للغاية لإسرائيل في قضايا مثل القدس والمستوطنات والأمن. لكنها تحمل أيضا وعد الدولة والازدهار للفلسطينيين على حد سواء، وذلك في حال ارتقت السلطة الفلسطينية ورئيسها لمستوى هذا الحدث.

هنا، من المفيد التعرف على منطق البيت الأبيض الكامن خلف محاولة السلام الجديدة.

أولا، تم رسم خطة ترامب للسلام لاستغلال موقف الفلسطينيين المتآكل في الشؤون الإقليمية. منذ عقد من الزمان، كانت مسألة السلام مع الفلسطينيين عنصرا أساسيا في السياسة الإسرائيلية، وقد أدرك المسؤولون الإسرائيليون أنهم بحاجة إلى بذل جهود للتفاوض كشرط مسبق لأي شراكة ذات مغزى مع بقية العالم العربي. وفي المقابل، اعتمد الفلسطينيون على العالم العربي للضغط على إسرائيل والولايات المتحدة نيابة عنهم.

تعيد صفقة ترامب إحياء مفهوم "حل الدولتين" بشكل فعال

الأمر ليس كذلك الآن. خلال العقد الماضي، دفعت المخاوف المشتركة بشأن صعود إيران، إسرائيل ودول عربية إلى التقارب. وهذا بدوره مكّن الحكومة الإسرائيلية من التعامل مع العالم العربي بشكل مستقل عن التقدم على المسار الفلسطيني. هذا الوضع لا يزال قائما. لا تزال قضية إيران مشكلة كبيرة بالنسبة للحكومات الإقليمية، مما يجعل التوافق المستمر مع إسرائيل وإدارة ترامب خيارا استراتيجيا منطقيا.

ترجم البيت الأبيض هذا التقارب إلى مسعى واسع لنيل التأييد العربي لخطته للسلام في الشرق الأوسط، وقد حقق نتائج مهمة. في المؤتمر الصحفي الذي عُقد يوم الثلاثاء، ظهر سفراء كل من البحرين وعمان والإمارات بشكل بارز ـ وهي علامة أكيدة على دعم حكوماتهم للاقتراح الأميركي. منذ ذلك الحين، أشارت كل من مصر والسعودية وقطر والمغرب علنا إلى دعمهم للخطة الأميركية أيضا. وفي هذه السياق، أوضحت هذه الدول أن الفلسطينيين لن يتمكنوا من الاعتماد تلقائيا على الدعم العربي إذا رفضوا المشاركة بشكل بناء.

ثانيا، تحمل صفقة ترامب الوعد بحدوث مفاجأة اقتصادية غير مسبوقة للفلسطينيين. وعد الرئيس في تصريحاته يوم الثلاثاء بأن رؤية البيت الأبيض "ستوفر استثمارا تجاريا هائلا بقيمة 50 مليار دولار في الدولة الفلسطينية الجديدة". (جدير بالذكر أن هذا المبلغ يمثل أكثر من ثلاثة أضعاف إجمالي الناتج المحلي السنوي للأراضي الفلسطينية، والذي يبلغ حاليا حوالي 15 مليار دولار). لكن ترامب أوضح أيضا أن هذا لن يحدث إلا إذا أخذت السلطة الفلسطينية خطوات ملموسة لمكافحة الفساد، وقبول وجود إسرائيل كدولة يهودية، ونزع سلاح حركة "حماس" وغيرها من جماعات الرفض ـ وهي أمور فشل القادة الفلسطينيون في القيام بها حتى الآن.

من المرجح أن تكون هذه الصفقة جذابة للغاية بالنسبة للفلسطينيين العاديين. فكما وثقت الأمم المتحدة، ساءت الأوضاع الاقتصادية في الأراضي الفلسطينية بشكل كبير خلال العامين الماضيين، وهي تقترب الآن من "الأزمة". لا يمكن ببساطة إلقاء اللوم على هذا الفشل في الازدهار على "الاحتلال" الإسرائيلي. إن الافتقار إلى خطط تنمية اقتصادية حقيقية وذات مغزى من جانب السلطة الفلسطينية أو "حماس" قد أضعف الفلسطينيين وتركهم يعتمدون إلى حد كبير على الهبات الدولية.

تسعى خطة ترامب إلى تغيير هذا الواقع، سواء من خلال زيادة الاستثمار الأجنبي المباشر أو من خلال برنامج ضخم لتوفير الوظائف. والآن بعد أن أصبح العرض على الطاولة، سيتوجب على القادة الفلسطينيون بذل جهد ليشرحوا لشعوبهم بالضبط سبب رفضهم لهذا العرض المربح ـ وما الذي يخططون للقيام به لتوفير الرخاء الاقتصادي بدلا من ذلك.

أخيرا، تعيد صفقة ترامب إحياء مفهوم "حل الدولتين" بشكل فعال. كانت تلك الفكرة، التي تتصور قيام دولتين إسرائيلية وفلسطينية تعيشان جنبا إلى جنب في سلام وأمن، ذات يوم دعامة أساسية لصنع السلام في المنطقة. ولكن في السنوات الأخيرة، انخفضت شعبيتها مع تزايد عدد الناس في إسرائيل وخارجها الذين اقتنعوا بأن الفلسطينيين غير مستعدين للقبول بوجود إسرائيل.

من المرجح أن تكون هذه الصفقة جذابة للغاية بالنسبة للفلسطينيين العاديين

الخطة الأميركية الجديدة تفرض فعليا هذا الأمر على الفلسطينيين. وبحسب ما توضح الخطة في تفاصيلها، فإن كلا من الدولة وازدهارها ممكنان بالفعل، شريطة أن تتجه القيادة الفلسطينية بخطوات ملموسة صوب الاعتدال. لكن الأمر الواضح أيضا، هو أنه إذا فشلت القيادة الفلسطينية في القيام بهذه الخطوات على مدى السنوات القليلة المقبلة، فإن الفلسطينيين يخاطرون بالتخلف بينما تتحرك إسرائيل والولايات المتحدة لإجراء ترتيبات أمنية وسياسية واقتصادية بدونهم.

حتى الآن، فإن استجابة القيادة الفلسطينية لاقتراح ترامب جاءت بالشكل المتوقع. رفض الرئيس عباس حتى التحدث مع الرئيس الأميركي قبل الإعلان عن الخطة، وفي أعقابها لعن ترامب ورفض شروطه على الفور. سبق لهذا النوع من الخطاب أن كان شعبيا في العالم العربي وأدى ثماره. لكن عباس وشركاؤه معرضون لأن يكتشفوا أن هناك رغبة أقل تجاه هذا الخطاب. بكل بساطة، تطور الحوار الإقليمي بشأن السلام الإسرائيلي ـ الفلسطيني، وخطة ترامب تعترف بهذه الحقيقة. كما أنها تقدم طريقا جديدا للمضي قدما ـ إذا كانت الأطراف مستعدة لذلك.

إسرائيل، على الأقل، تبدو مستعدة للقيام بذلك. في تصريحاته يوم الثلاثاء، استخدم رئيس الوزراء نتانياهو أدبيات رجل الدولة الإسرائيلي التاريخي آبا إيبان عندما طمأن الرئيس الأميركي بأن "إسرائيل لن تفوت هذه الفرصة". والسؤال هو، هل سيفوتها الفلسطينيون؟

اقرأ للكاتب أيضا: العلاقات الأميركية التركية في لحظة حرجة

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

خطة ترامب.. الكرة في ملعب عباس 39386362-0608-4BA7-93F2-FC9E18159E4A.jpg AFP خطة-ترامب-الكرة-في-ملعب-عباس استجابة القيادة الفلسطينية لاقتراح ترامب جاءت بالشكل المتوقع 2020-01-31 14:47:00 1 2020-01-31 14:53:32 0

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.