535318 4

د. ابتهال الخطيب/

أبدأ كتابة هذا المقال وكأنني أضع كفي في عش الدبابير. أكتب خائفة مستعجلة. أود أن أنهيه قبل أن أبدأه. أكتب وأنا لا أدري أين ستأخذني الكلمات، أو إن كنت سأقدمها للنشر أم لن أفعل. إن أكملت هذا المقال وأرسلته للنشر، أعد نفسي ألا ألغي كلمة، إما البوح التام أو الصمت الزؤام.

نشرت جريدة الجريدة الكويتية قبل أيام خبرا عن تطوير تقنية "الواقع الافتراضي" التي مكنت أم كورية من رؤية ابنتها بعد أربعة سنوات من وفاة الابنة، حيث جلست الأم لتلعب مع الابنة وتحتفل معها بعيد ميلادها ثم، في نهاية البرنامج الإلكتروني، وضعت الأم الطفلة في السرير لتنام، لتتحول بعدها إلى فراشة وتطير. كل ذلك، الذي تم في عشرة دقائق، كان قد استغرق ثمانية أشهر من البرمجة.

لا أدري إن كنت قادرة على استكمال هذا المقال، ربما أعود له لاحقا.

أود أن أكتب ولا أدري إن كانت الكتابة ضغط على الجراح أم تطبيب لها. لو توفرت لي هذه التقنية هل سأستخدمها؟ كيف؟ ما سأقول عما فقدت؟ كيف سأصفه صورة لم أرها أصلا؟ كيف يمكن برمجة كل ما يجوب في ثنايا النفس؟ كيف سأشرح سنوات من ألم لا يمكن نسيانه، لا أود نسيانه، ألم هو كل ما بقي لي مما فقدت؟

ربما لن أستطيع استكمال هذا المقال.

مجرد محاولة فتح هذا الملف على كمبيوتري هي مهمة شاقة، أكره هذه الصفحة نصفها مسود ونصفها أبيض، مثل قلبي، نصفه حي ونصفه ميت، نصفه ينبض ونصفه ساكن. لو أنني تمكنت من برمجة قصتي، هل سيحيى نصف قلبي؟ هل سينبض من جديد، أم هل ستقتل المواجهة الإلكترونية المبرمجة النصف الحي النابض وتقضي على القلب كله؟

أريد أن أنسى، فالذكريات على ألمها هي كل ما بقي لي

أخبروني أيها الأصدقاء، من منكم يمتلك دقيقة فليبعث لي برسالة قلبية، هل يجب أن نفعل؟ هل نرسم الأحبة المفقودين صورا إلكترونية، هل نعيدهم برامج كمبيوترية، مجرد واحدات وأصفار؟ هل نستحضرهم رسومات تتحرك ولو على شكل خيالات إلكترونية من أجل دقائق راحة؟ وماذا بعد هذه الدقائق، ماذا لو لم نستطع أن نخرج من ذلك البرنامج الكمبيوتري؟ ماذا لم أخذتنا التقنية إلى عالم لا يمكن العودة منه؟ لو ذهبت إلى هناك، لا أعتقدني أود العودة أبدا رغم كل الأحبة الموجودين في العالم الحقيقي.

هذا مقال كريه، لن أكمله.

أف! مجرد فتح الملف يبدو وكأنه عملية تسلق تل شاهق طري الرمال، قدماي تغوصان بالكاد أرفع واحدة وأقدم الأخرى. أين توقفت في الكتابة؟ لا أود العودة لما كتبت مسبقا، لا أستطيع العودة عنه كذلك، كل ما أستطيع في هذه المرحلة هو الإشارة لألم محشور بين الضلوع، ألم قديم لم تنغلق عليه ضفتي الجلد المفتوحتين المتقرحتين، ألم لا تندمل أي من مكوناته.

قلت لنفسي لو كتبت، لعلي أكسر حبسي الانفرادي، لعل القراء يميزون ألمي المختبئ أسفل ألف وسادة ووسادة، مثل حبة البازلاء التي لا تستطيع أن تستشعرها سوى تلك الأميرة المنكوبة، صدى في داخلهم، فنحيا هم وأنا للحظات، يجمعنا هذا المقال بآلامنا المتشابهة الاختلافات، نواسي بعضنا البعض بالتشارك الجمعي اللحظي بالألم، بالتفكر في لحظة راحة منه، لحظة الراحة التي هي لربما أشبه بجرعة مورفين قوية تأتي على صورة برمجة إلكترونية تأخذنا بعيدا عن فقدنا، إلى حيث الوصل السعيد غير المشروط. لو أن هذا ممكن.

لا أريد أن أتخلى عن مسؤولياتي، فواجبي يأتي قبل ألمي

لعنة الله على هذا المقال وعلى فكرة كتابته.

أعتذر عن قسوة الكلمات، لقد وعدت نفسي أنني لن ألغي شيئا، وأود أن أحافظ على وعدي، كم وعدت نفسي فأخلفت، فهل أمتلك الشجاعة الآن أن أبقي على هذا الوعد؟ هل سأضغط زر إرسال المقال عبر البريد الإلكتروني أم سيكون مصيره في سلة المهملات الإلكترونية؟ السؤال الأهم، لو توفرت هذه التقنية، هل سأضغط زر التشغيل؟ هل سأدخل طوعا لهذه الدنيا الافتراضية المريحة، بجرعتها المخدرة القوية، وأنا أدري أنني لربما لن أعود منها كما ذهبت، ولربما لن أعود منها مطلقا؟

لو خيرت بين أن أبقى هناك حيث الغابة الملونة والفراشات الزاهية والفقد الذي عاد، أو أن أعود للحقيقة حيث أحبة لي هنا ينتظرونني، يحتاجونني، يتوقعون مني التزامي بمسؤولياتي، ماذا سأختار؟ هناك خيال وراحة، هنا حقيقة وأناس وأسرة هم غراء روحي الذي يبقيني قطعة بشرية متماسكة. ماذا سأختار؟ دقائق راحة لربما تكلفني بقية الحياة، أم بقية حياة لربما تكلفني الكثير من الألم؟

لا أريد أن أتخلى عن مسؤولياتي، فواجبي يأتي قبل ألمي. لا أريد أن أنسى، فالذكريات على ألمها هي كل ما بقي لي. لا أريد أن أبقى أشعر، فالألم أحيانا يفوق في حجمه الوعاء الجسدي الذي يحمله. لا إجابة تريحني، ولا معنى لهذا المقال الذي يعذبني، كتابته كانت منتهى القسوة، ومحاولة إرساله عملية أقسى. سأحاول أن أضغط زر الإرسال، سأحاول بكل قوتي.

اقرأ للكاتبة أيضا: متى ننجو؟

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).
مورفين F8786772-66EE-498A-8484-543F0DC72152.jpg Reuters مورفين موظف يعمل على الانتهاء من عملية تحريك إحدى الشخصيات لتكون جاهزة لعرضها في تقنية "الواقع الافتراضي" 2020-02-25 13:00:18 1 2020-02-24 19:50:05 0

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.