"لماذا لا ينسجم المنتفضون والمدنيون والمستقلون والمقاطعون والمترددون العراقيون في تيار سياسي كبير يسعى إلى فرض التغيير المنشود بعد الحصول على مقاعد برلمانية كافية؟".. يبدو تساؤلا ملحا ومنطقيا أيضا، في ضوء فشل التجربة السياسية للأحزاب العراقية التي تصدرت المشهد بعد 2003، وبروز أجيال شابة تمتلك رؤية أكثر فعالية للعمل السياسي عن الأجيال السابقة، وأيضا من أجل ترجمة حالة الاحتجاج والرفض الشعبية الطاغية إلى أرقام برلمانية حقيقية.

ومع أن كل الظروف في العراق تبدو للوهلة الأولى أنها تخدم ولادة تيار سياسي جامع وفاعل وقادر على التغيير، غير أن الحقيقة على الأرض بحاجة إلى المزيد من التمعن بهذا الخيار.

فالصراع السياسي المندلع في هذه الأثناء حول الحكومة الانتقالية التي يفترض أن تمهد لانتخابات عادلة، يتعلق في أكثر تمثيلاته عمقا بمنع كل الفرص الممكنة لولادة هذا التيار الجديد، بل إن كل عمليات القمع والتنكيل والاختطاف التي مورست ضد المحتجين العراقيين طوال الشهور الخمسة الماضية من التظاهرات الشعبية المتواصلة، كانت موجهة إلى هذه الفكرة قبل سواها. 

كسب ثقة الناس خلال الانتخابات مختلف تماما عن كسب تعاطفهم خلال التظاهرات

وكل التهديدات التي تواجه المثقفين والمفكرين والناشطين والأكاديميين المستقلين تترجم مخاوف القوى السياسية الحالية من اندحارها المؤكد أمام قوة سياسية شابة ونزيهة تكتسب ثقة الناس وتلقي بالجيل السياسي السابق إلى محاكم التاريخ، والفاسدين منهم إلى المحاكم الفعلية.

ولكن كل ذلك لا يمثل عائقا حقيقيا أمام ولادة هذا التيار المنتظر، فهو لم يكن عائقا أمام تواصل التظاهرات، كما أن قانون الانتخابات مهما بلغت درجة عدم عدالته لا يمكن أن يمنع تمثيلا هائلا لهذا التيار، والتزوير برعاية مفوضية الانتخابات أو من دون رعايتها، لا يمكنه أن يلغي أصوات الأغلبية في حال اختارت أن تصوت لهذا التيار.

أين المشكلة إذا؟

واقع الحال أن المشكلة تأسيسية، وهي تخص الطبيعة البوليسية للسلطة العراقية التي أجبرت الشباب المتظاهرين، ومعظمهم في مقتبل أعمارهم، على محاولة حماية أنفسهم بتجنب إنتاج رؤى صريحة وكبيرة حول أهدافهم السياسية، ناهيك عن إنتاج قيادات موثوقة لحراكهم، كما أن حملات التخوين منعتهم من تأسيس حالة اللقاء التقليدية في خضم الثورات المشابهة بين الثائرين الميدانيين والمفكرين، لبلورة خطوط ومسارات تسمح بخلق تيار سياسي ينقل الاحتجاج من الساحات إلى قاعة البرلمان.

الأكثر أن ساحات التظاهر التي صنعها الشباب المسالمون العفويون البريئون من الأعراض الحزبية، كانت بيئة مناسبة وغير محمية لزج معظم الأحزاب والمليشيات بعض كوادرها بين المتظاهرين لتشويش الرؤية، واصطياد القياديين، وتفكيك أية محاولة لبلورة منهج سياسي واضح متفق عليه.

ولكن ما هو أكثر حسما في هذه القضية، هو ارتفاع سقف الشعارات الشعبية التي أرست منذ اليوم الأول للتظاهرات حالة القطيعة الكاملة مع كل نمط حزبي، حتى أصبح مفهوم "الحزب السياسي" تهمة بحد ذاتها، وهي مسؤولية يتحملها بالطبع الأداء السياسي الهزيل والفاسد للأحزاب العراقية، التي هشمت عبر عملية سياسية حافلة بالتجاوزات على مبادئ الديمقراطية، فضربت ثقة الشارع بالديمقراطية نفسها كأداة لتغيير الواقع.

المشكلة تأسيسية، وهي تخص الطبيعة البوليسية للسلطة العراقية

كان يمكن في مثل ظروف انتفاضة تشرين العراقية الدامية، أن يحدث انشقاق مدو داخل البيئة السياسية يقود إلى التحاق أحزاب أو شخصيات بالشارع تسهم بدورها في سد الفجوة بين الجمهور وفكرة الحزب، والتأسيس لانتقال أكثر انسيابية لولادة تيار سياسي جديد، لكن ذلك لم يحصل؛ لأن معظم الاحزاب لم تشأ أن تتخذ مواقف ترتقي إلى مستوى الحدث، واكتفت بالتصريحات والتغريدات، بدلا عن اتخاذ قرارات حاسمة مثل الاستقالة من الحكومة والبرلمان وحل نفسها للاندماج في الشارع ومساعدته على تفعيل انبثاقه السياسي.

ولذلك كله، أصبحت المهمة عسيرة، وستكون كارثية في حال اختارت كل مجموعة احتجاجية ميدانية أن تقود عملا سياسيا منفردا، وتهدر الفرصة الذهبية للاجتماع في تيار واحد قادر على نيل ثقة الناس. والأكثر خطورة، ألا يتمكن بعض الشباب، جراء ما عانوه من اضطهادات خلال الشهور الماضية، من فهم الفرق بين العمل الميداني الاحتجاجي، والتيار السياسي الاحتجاجي، وأن يفوت بعضهم أن كسب ثقة الناس خلال الانتخابات مختلف تماما عن كسب تعاطفهم خلال التظاهرات.

لكن كل ذلك لا يعني أن الفرصة قد انتهت، فما زال أمام الشباب الذين سطروا بانتفاضتهم الشجاعة دروسا بليغة في الإيثار والتعاون والتكاتف أمام ماكينة قمعية غير مسبوقة استخدمت كل أنواع العنف المنظم لتفريقهم، مهمة إضافية، تخص الانفتاح على بيئة أوسع لتأسيس تيار سياسي يقوم على الأهداف المشتركة الجامعة بالدرجة الأساس، ويفكر في الآليات الواجب توفرها لكسب ثقة الناخبين بطروحات رصينة وجادة، وعبر شخصيات نزيهة وقادرة على العمل السياسي المنتج.

اقرأ للكاتب أيضا: الأحزاب العراقية و"وزراء الطائفة"؟

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

تيار سياسي عراقي جديد... ولكن! D200C01D-488D-4528-9094-4AA83E30150A.jpg AFP تيار-سياسي-عراقي-جديد-ولكن أصبحت المهمة عسيرة، وستكون كارثية في حال اختارت كل مجموعة احتجاجية ميدانية أن تقود عملا سياسيا منفردا، وتهدر الفرصة الذهبية للاجتماع في تيار واحد قادر على نيل ثقة الناس 2020-02-29 02:38:48 1 2020-02-28 19:30:05 0

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.