A couple take a selfie with cherry blossoms at Ueno park in the Japanese capital Tokyo on March 19, 2020. - The Tokyo…
يلتقطان "سيلفي" تحت براعم الكرز المتفتحة في طوكيو

الربيع الآن...

في واشنطن، كما في طوكيو، كما في معظم مدن العالم في نصف الكرة الشمالي.

جاء كربيع ملتزم في موعده، مطيعا لمنظومته القدرية، لم يكترث بضجيج الأخبار، وألزم الناس على تأمل بهائه بغيظ وحسرة من خلف زجاج النوافذ، وهو يختال هذه المرة منفردا، دون أن يخفف من إغواء جمالياته إرضاء لأحد.

قبل أكثر من مئة عام، أهدت اليابان العاصمة الأميركية واشنطن، أصنافا من أشجار كرزها التي زرعت عند ضفاف نهر باتوماك، وتشهد عادة في مثل هذه الأوقات ذروة تفتح براعمها في كلا العاصمتين، كما في العديد من المدن التي داهمها بعض الدفء.

سطوة جائحة كورونا التي فرضت الحجر المنزلي على العالم، ألغت كل مهرجانات الربيع، وفي طريقها ألغت مهرجان أشجار الكرز "ساكورا" السنوي الشهير في العاصمة واشنطن. لكن الحضور الياباني، بحلته الإيجابية، يبدو أنه ما زال يقظا، وبدلا عن بتلات أشجار الكرز، قدمت اليابان اليوم، لأميركا وللعالم، وفي موسم الربيع أيضا، صنفاً جديدا من الدواء (أفيغان-Favipiravir) منحته قبل أيام "إدارة الدواء والغذاء الأميركية الضوء الأخضر لتجريبه كعقار محتمل ضد مرض كوفيد -19، ستكون ولاية ماساتشوستس أول ولاية أميركية تجربه، ومن ثم سيتم توفيره مجانا لنحو 50 دولة".

اقتصاد اليابان وأنظمتها التعليمية والصحية المتفوقة، وضعتها في مقدمة دول العالم ذات الخصوصية المثيرة

وهو دواء، قيل إنه آمن، وأثبت حتى اليوم فاعلية "بإزالة المرض خلال أربعة أيام بدلا عن أحد عشر يوما مع حالات الإصابة الأخف حدة"، بالتالي إن ثبتت جدواه المساندة خلال الأيام القليلة القادمة، قد نشهد تراجعا ملموسا بعدد الوفيات اضطرادا مع ارتفاع حالات الشفاء، وهو تطور مدهش ومرجو بالتأكيد، كما أن ارتباطه بواحدة من شركات (FujiFilm) اليابانية المنتجة له، وهي واحدة من أهم وأشهر شركات تصنيع الكاميرات ومعدات التصوير والأفلام الخام في العالم، يمنح الأمر دلالة فنية ذات مذاق مختلف لدور مبطن ربما يلعبه فرع من فروع صناعة السينما في بعض الخلاص.

نثرت اليابان في الأرض بعض أجمل رموزها التراثية والفنية والثقافية، مثل مسرح الكابوكي والنوه والبونراكو، وفنون الشعر وأشهرها المعروف بـ"هايكو"، وفنون الرسم وتنسيق الزهور "أكيبانا"، وبرز منها كبار في عالمي السينما والأدب، كما عرّفت العالم على مذاق أشهر أطباق مطبخها مثل السوشي والسوكي ياكي، وفي الرياضة عممت فنونها في القتال والدفاع عن النفس، التراثية والدينية والفلسفية، إلى رياضات عالمية مثل الجودو والكاراتيه، يتماهى معها شبان العالم من الجنسين، ويتعلمون منها فن الاحترام المتضمن في عمق طقوسها الجسدية وتعاليمها.

اقتصاد اليابان وأنظمتها التعليمية والصحية المتفوقة، بديهيات شهيرة وغنية عن التعريف، وضعتها في مقدمة دول العالم ذات الخصوصية المثيرة، لكنها في الوقت ذاته، خصوصية غير انعزالية أو أنانية، ففي معظم أوقات المحن الاقتصادية أو السياسية أو البيئية أو الصحية التي تصيب العالم من حين إلى آخر، يتدخل الساموراي الياباني للخدمة، وتقديم المساعدات والمعونات والاستشارات، دون تبجح أو استعراض أو ضجيج.

اليابان، وتعني بلغة أهلها منبع أو مشرق الشمس، قد يشكل عقارها للعالم أحد منابع الخلاص للتخفيف من وطأة وآثار هذه الجائحة

وعلى سبيل المثال لا الحصر، لليابان أياد بيضاء اقتصادية وصحية وبيئية كثيرة في سوريا، إذ لا ينسى الدمشقيون حتى اليوم اهتمام اليابانيين وحرصهم على البيئة السورية ضمن مهامهم الدبلوماسية، والتي أسفرت عن حملتين لتنظيف مجرى نهر بردى كان آخرهما سنة 2012، وحملات تنظيف الحدائق ومن أبزرها حديقة السبكي العريقة وسط دمشق، إضافة إلى سيارات الاسعاف النوعية التي تصطف منذ سنوات في أحد ساحات دمشق وحتى اليوم، وتحمل إهداء "من الشعب الياباني إلى الشعب السوري".

المنتَج الياباني، الصناعي والكهربائي والإلكتروني، هو علامة الثقة المطلقة، والحصول على مثل هذه الثقة العالمية، تطلب جهدا وسعيا وإصرارا، والمضي في درب لم يكن سهلا على اليابانيين الذين وجدوا أنفسهم عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، مثقلين بالأحزان والنكبات والخراب والفقر، لكنهم وإن استسلموا في الحرب، إلا أنهم لم يستسلموا روحيا، واستندوا إلى تراثهم العريق القائم على الاحترام المطلق والايمان واستلهام أمجاد الأجداد، وبالوقت ذاته التطلع إلى المستقبل والحداثة بشغف وإصرار، وقرروا النهوض معا، عبر اتباع سياسة العمل الجاد والمكثف، حتى كادوا يشبّهون بالروبوتات التي يصنعونها لشدة انغماسهم في العمل كالآلات، وهو عمل ترافق دوما بحكمة "الصمت"، حيث يمكن بوضوح تلمس دبلوماسية الصمت الفعال هذه على جميع الأصعدة المتعلقة بالسياسة اليابانية والاقتصاد والمجتمع وغيرها من السلوكيات أو آليات العمل اليابانية.

اليابان، وتعني بلغة أهلها منبع أو مشرق الشمس، قد يشكل عقارها للعالم، ولخصمها القديم اللدود، وحليفها الأقوى اليوم، أحد منابع الخلاص للتخفيف من وطأة وآثار هذه الجائحة القاتلة، وبانتظار التوصل إلى اللقاح المضاد، تعقد الآمال على ذكاء اليابان وتاريخها الطبي، والثقة بسياساتها السلمية، للتوصل جنبا إلى جنب دول العالم في إحلال الشفاء والاحتفاء بربيع آخر تستحقه بشرية معافاة ومشرقة.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.