الربيع الآن...
في واشنطن، كما في طوكيو، كما في معظم مدن العالم في نصف الكرة الشمالي.
جاء كربيع ملتزم في موعده، مطيعا لمنظومته القدرية، لم يكترث بضجيج الأخبار، وألزم الناس على تأمل بهائه بغيظ وحسرة من خلف زجاج النوافذ، وهو يختال هذه المرة منفردا، دون أن يخفف من إغواء جمالياته إرضاء لأحد.
قبل أكثر من مئة عام، أهدت اليابان العاصمة الأميركية واشنطن، أصنافا من أشجار كرزها التي زرعت عند ضفاف نهر باتوماك، وتشهد عادة في مثل هذه الأوقات ذروة تفتح براعمها في كلا العاصمتين، كما في العديد من المدن التي داهمها بعض الدفء.
سطوة جائحة كورونا التي فرضت الحجر المنزلي على العالم، ألغت كل مهرجانات الربيع، وفي طريقها ألغت مهرجان أشجار الكرز "ساكورا" السنوي الشهير في العاصمة واشنطن. لكن الحضور الياباني، بحلته الإيجابية، يبدو أنه ما زال يقظا، وبدلا عن بتلات أشجار الكرز، قدمت اليابان اليوم، لأميركا وللعالم، وفي موسم الربيع أيضا، صنفاً جديدا من الدواء (أفيغان-Favipiravir) منحته قبل أيام "إدارة الدواء والغذاء الأميركية الضوء الأخضر لتجريبه كعقار محتمل ضد مرض كوفيد -19، ستكون ولاية ماساتشوستس أول ولاية أميركية تجربه، ومن ثم سيتم توفيره مجانا لنحو 50 دولة".
اقتصاد اليابان وأنظمتها التعليمية والصحية المتفوقة، وضعتها في مقدمة دول العالم ذات الخصوصية المثيرة
وهو دواء، قيل إنه آمن، وأثبت حتى اليوم فاعلية "بإزالة المرض خلال أربعة أيام بدلا عن أحد عشر يوما مع حالات الإصابة الأخف حدة"، بالتالي إن ثبتت جدواه المساندة خلال الأيام القليلة القادمة، قد نشهد تراجعا ملموسا بعدد الوفيات اضطرادا مع ارتفاع حالات الشفاء، وهو تطور مدهش ومرجو بالتأكيد، كما أن ارتباطه بواحدة من شركات (FujiFilm) اليابانية المنتجة له، وهي واحدة من أهم وأشهر شركات تصنيع الكاميرات ومعدات التصوير والأفلام الخام في العالم، يمنح الأمر دلالة فنية ذات مذاق مختلف لدور مبطن ربما يلعبه فرع من فروع صناعة السينما في بعض الخلاص.
نثرت اليابان في الأرض بعض أجمل رموزها التراثية والفنية والثقافية، مثل مسرح الكابوكي والنوه والبونراكو، وفنون الشعر وأشهرها المعروف بـ"هايكو"، وفنون الرسم وتنسيق الزهور "أكيبانا"، وبرز منها كبار في عالمي السينما والأدب، كما عرّفت العالم على مذاق أشهر أطباق مطبخها مثل السوشي والسوكي ياكي، وفي الرياضة عممت فنونها في القتال والدفاع عن النفس، التراثية والدينية والفلسفية، إلى رياضات عالمية مثل الجودو والكاراتيه، يتماهى معها شبان العالم من الجنسين، ويتعلمون منها فن الاحترام المتضمن في عمق طقوسها الجسدية وتعاليمها.
اقتصاد اليابان وأنظمتها التعليمية والصحية المتفوقة، بديهيات شهيرة وغنية عن التعريف، وضعتها في مقدمة دول العالم ذات الخصوصية المثيرة، لكنها في الوقت ذاته، خصوصية غير انعزالية أو أنانية، ففي معظم أوقات المحن الاقتصادية أو السياسية أو البيئية أو الصحية التي تصيب العالم من حين إلى آخر، يتدخل الساموراي الياباني للخدمة، وتقديم المساعدات والمعونات والاستشارات، دون تبجح أو استعراض أو ضجيج.
اليابان، وتعني بلغة أهلها منبع أو مشرق الشمس، قد يشكل عقارها للعالم أحد منابع الخلاص للتخفيف من وطأة وآثار هذه الجائحة
وعلى سبيل المثال لا الحصر، لليابان أياد بيضاء اقتصادية وصحية وبيئية كثيرة في سوريا، إذ لا ينسى الدمشقيون حتى اليوم اهتمام اليابانيين وحرصهم على البيئة السورية ضمن مهامهم الدبلوماسية، والتي أسفرت عن حملتين لتنظيف مجرى نهر بردى كان آخرهما سنة 2012، وحملات تنظيف الحدائق ومن أبزرها حديقة السبكي العريقة وسط دمشق، إضافة إلى سيارات الاسعاف النوعية التي تصطف منذ سنوات في أحد ساحات دمشق وحتى اليوم، وتحمل إهداء "من الشعب الياباني إلى الشعب السوري".
المنتَج الياباني، الصناعي والكهربائي والإلكتروني، هو علامة الثقة المطلقة، والحصول على مثل هذه الثقة العالمية، تطلب جهدا وسعيا وإصرارا، والمضي في درب لم يكن سهلا على اليابانيين الذين وجدوا أنفسهم عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، مثقلين بالأحزان والنكبات والخراب والفقر، لكنهم وإن استسلموا في الحرب، إلا أنهم لم يستسلموا روحيا، واستندوا إلى تراثهم العريق القائم على الاحترام المطلق والايمان واستلهام أمجاد الأجداد، وبالوقت ذاته التطلع إلى المستقبل والحداثة بشغف وإصرار، وقرروا النهوض معا، عبر اتباع سياسة العمل الجاد والمكثف، حتى كادوا يشبّهون بالروبوتات التي يصنعونها لشدة انغماسهم في العمل كالآلات، وهو عمل ترافق دوما بحكمة "الصمت"، حيث يمكن بوضوح تلمس دبلوماسية الصمت الفعال هذه على جميع الأصعدة المتعلقة بالسياسة اليابانية والاقتصاد والمجتمع وغيرها من السلوكيات أو آليات العمل اليابانية.
اليابان، وتعني بلغة أهلها منبع أو مشرق الشمس، قد يشكل عقارها للعالم، ولخصمها القديم اللدود، وحليفها الأقوى اليوم، أحد منابع الخلاص للتخفيف من وطأة وآثار هذه الجائحة القاتلة، وبانتظار التوصل إلى اللقاح المضاد، تعقد الآمال على ذكاء اليابان وتاريخها الطبي، والثقة بسياساتها السلمية، للتوصل جنبا إلى جنب دول العالم في إحلال الشفاء والاحتفاء بربيع آخر تستحقه بشرية معافاة ومشرقة.