A woman wearing a face mask, following an outbreak of coronavirus, holds a sign reading "We are the source of the revolution"…
بعد 17 عاما على ما كان، لم يغادر الرجاء كنعان مكية على ما سوف يكون، بعدما فتح الأول من أكتوبر 2019 كوّة في جدار 9 أبريل 2003

يعود كنعان مكية إلى رسم المشهد العراقي بعد 17 عاما على غربته الثانية، ولعلها أشد مرارة من الأولى. فحسرته في الثانية مضاعفة بعد خسارة فرصة قد لا تتاح مجددا. لكنه لم يخسر الأمل، بالرغم من الخوف المقيم بين طيات حروفه، وهو على الأرجح ما دفعه إلى تأجيل إعلان انتصاره على جمهورية الخوف، ويعتريه القلق على عراق بنت فيه جمهورية القناصين متاريسها.

هذه المتاريس الطائفية والعقائدية كانت نتيجة طبيعية لفشل مشروع إعادة بناء الدولة، بعدما أوكلت الفرصة التاريخية لنخبة تعاملت مع العراق كغنيمة لتعويض سنين المنفى والقهر، فتصرفوا بذهنية المنتقم لا المنتصر، وهي المسافة الموضوعية بين مشروعين؛ الأول اختزل العراق الممكن بدولة الطوائف، أما الثاني يؤمن بطائفة الدولة. فكانت النتيجة عنفا أهليا حوّل التغيير إلى نقمة، وكاد العراقيون أن يتحسروا على مستبد واحد يعرفون طبائعه، حل مكانه مجموعة مستبدين لا طعم لهم ولا لون، أفلحوا في ظلم المظلومين.

مما لا شك فيه أن فشل التجربة ما بعد 2003 يطرح إشكالية معقدة في فهم من تصدى للعملية السياسية، لمعنى الدولة وإدارتها، ليظهر أن فشلهم ذاتيا آتيا من الداخل، من عقدة الخوف من المستقبل وصعوبة التصالح مع الماضي وهاجس عودته، فتملكهم دائما خوف غير مبرر: خوف الفرد من الجماعة، وخوف الجماعة من المكونات، والمكونات من الطائفية، والطائفة من الطوائف، والطوائف الخائفة من السلطة، بعدما سلمت السلطة لقادة غير مؤهلين تخلوا عن فكرة الدولة لصالح الدويلات؛ يفسرها كنعان مكية بأنهم "طائفيون استبدلوا بفكرة العراق، ذلك الوهم (دولة الشيعة)".

انتفاضة أكتوبر أتاحت العودة للبحث في الفضاء العام الوطني، نتيجة امتلاكها للشرعية الشعبية

بعد 17 عاما على ما كان، لم يغادره الرجاء على ما سوف يكون، بعدما فتح الأول من أكتوبر 2019 كوّة في جدار 9 أبريل 2003، تاريخ أسس للحظة يصفها مكية بالانتحارية يعيشها العراق حاليا، ويضيف في مقال له نشرته موقع ناس الإلكتروني "كُتُب التاريخ ستسجل أن هذه اللحظة رسمت خطا أحمر مداده دماء شباب العراق؛ خطا يفصل الفكر الطائفي عن فكرة العراق التي مات من أجلها شباب وشابات لا يعرفون غير ذلك الوطن الذي سلب مستقبله منهم غدرا".

بالنسبة له فإن انتفاضة أكتوبر أتاحت العودة للبحث في الفضاء العام الوطني، نتيجة امتلاكها للشرعية الشعبية وتمثل أغلبية أعطتها شرعية دستورية، بمواجهة نخبة سياسية حزبية تمثل أقلية صادرت الدولة وأوّلت الدستور وأعطت لنفسها مبررات لمخالفة القانون تحت ذريعة حماية المكتسبات المذهبية والعرقية.

أسرار كثيرة لم يفصح عنها كنعان مكية، عن وعود وخيانات، عن إخفاقات البيت السياسي الشيعي في الحكم، وغياب فكرة الدولة عند سكانه

لم يعد مطلوبا من كنعان مكية الإجابة على أسئلة صعبة، بل بات المطلوب طرح سؤال واحد، بعد 17 عاما على التجربة من يتحمل مسؤولية الفشل؟ خصوصا أن أنتفاضة أكتوبر تجاوزت أجوبة السلطة المركبة والمعقدة التي تحتمل التأويل ولعبة التأجيل، بعدما انتزعت ساحة التحرير الفرصة التي ضاعت في ساحة الفردوس 9 أبريل 2003، لكن الفارق بين التاريخين أن الأول أسقط صنما واحدا بفعل خارجي، أما الثاني فمهمته أصعب وعلى عاتقه إسقاط عدة أصنام ولكن بإمكانيات داخلية فقط. ما يعني أن الحظ أعطى من لا يستحقون فرصة، بينما الآن يعاند فرصة لمن يستحقونها.

أسرار كثيرة لم يفصح عنها كنعان، عن وعود وخيانات وتواطؤ، عن إخفاقات البيت السياسي الشيعي في الحكم، عن غياب فكرة الدولة عند سكان هذا البيت، الذين فضلوا الانتماء إلى الجماعات الخاصة والعصبية المذهبية، وتسلحوا بالعنف لتحقيق المشروعية.

يبقى كنعان مكية لمن عرفه عن قرب مثقفا بطابع معماري، يرغب في فكفكة الأفكار وإعادة بنائها، تسكنه الأماكن وأسماؤها، على رصيف الغربة الدائمة والوطن المؤقت حملنا كنعان وجال بنا مع خالد المطلق عن حكايات المدن العتيقة وذاكرة أرصفتها من القدس إلى سمرقند إلى بغداد بتفاصيلها، من ساحة الطيران إلى ساحة التحرير، من شارع الرشيد ومقهى حسين عجمي إلى شارع المتنبي ومقهى الشهابندر، من جدارية فائق حسن إلى لوحة اللبوة الجريحة لأحمد حسين الزعيم، إلى مكتبة والديه وروايته الجديدة القسوة.

9 أبريل لك، وما بعده عليهم وليس عليك، فلا تعتذر عما لك.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.