A mariachi band serenades the National Institute of Respiratory Diseases (INER) in Mexico City, on April 7, 2020 to give hope…
فرقة موسيقية مكسيكية تعزف أمام المعهد الوطني لأمراض التنفس

يطبق الغم على الصدر في هذه الأيام مثل عاصفة رملية أو اجتياح أسراب جراد، ويشعر كل إنسان ـ بما في ذلك المتقاعد أو الزوجة التي قليلا ما تبارح بيتها ـ بأنه محكوم بالسجن إلى أجلٍ غير مسمى. هل انتهى الفرح من العالم، وولج البشر نفقا طويلا معتما لا يبدو بصيص ضوء في نهايته؟ وسط ثقل كورونا على قلوب الناس، ما زالت موجات النكات خفيفة الظل تسري عبر وسائل الاتصال الاجتماعي، وبالأخص في العالم العربي. من أظرفها: "أن هناك رجلا وقع في غرام زوجته بفضل الحجر الصحي، فهجر عشيقته".

من ناحية أخرى، لم يتوقف حديث المؤامرة بكل ما يتضمنه من إثارة وخيال جامح. مهما أثبتت الأرقام عن تأثر كامل دول الغرب بالفيروس مثل الصين، يتجاهل مروجو الإشاعات أن المختبرات البيولوجية لا تقتصر على أوروبا الغربية والولايات المتحدة، ولا على الصين وروسيا، بل هي منتشرة حتى في كثير من الدول النامية. كان يهمس منذ عدة عقود من الزمن أنه في مواجهة امتلاك بعض الدول للسلاح النووي، فإن السلاح الجرثومي والكيماوي هو سلاح الردع عند الفقراء.

إحدى أبرز نظريات المؤامرة التي تم تداولها بشكل واسع هي نظرية مارتن ريس، الذي وصف بأنه "عالم الفيزياء والكونيات البريطاني في جامعة كيمبريدج"، والذي تنبأ في عام 2003 في كتابه "ساعتنا الأخيرة" على أن الكارثة ستقع في عام 2020، إما بشكل متعمد من قبل "أشرار"، أو نتيجة خطأ بيولوجي سوف يؤدي إلى موت مليون إنسان، حسبما نشرت إحدى الصحف العربية. 

استشهد الباحث هشام طالب بكلامه في كتابه "بناء الكون ومصير الإنسان... الدلائل العلمية لنشوء الكون، هل تبدأ نهاية العالم من أوروبا؟" الصادر بالعربية في 2012. يشير الكتاب من عنوانه إلى أن الخطأ البيولوجي المتوقع سيبدأ من أوروبا، وليس من الصين أو الولايات المتحدة، الأمر الذي تجاهله أنصار نظرية المؤامرة. 

نعود لنقتطف بعض أقوال مارتن ريس: "التوقعات بحدوث كارثة ارتفعت من 20 إلى 50 في المئة خلال مائة عام. العلم يتقدم بدرجة لا يمكن التنبؤ بها، وفي نطاق أخطر من أي وقت مضى". ويضيف ريس: "في ما يتعلق بتخليق الفيروسات والبكتيريا القاتلة، فإنها ستكون متاحة بين كثير من الناس، وربما يكونون من الفاسدين، فيستخدمونها في غير أوجهها الصحيحة. لذلك لاحظ الغرب، وفي طليعته الولايات المتحدة الأميركية، أن شخصا واحدا يمكن أن يسبب كارثة عالمية". 

وأردف ريس: "هذا الخطر تزايد بعد حوادث 11 سبتمبر 2001 ونوبة الهلع التي هزت العالم بظهور الجمرة الخبيثة (الأنثراكس) التي تتسرب عبر البريد، ومرض السارس وعدوى الطيور وغيرها من الأمراض القاتلة التي تتسبب بها الكيمياء البيولوجية". 

رغم فداحة آثار جائحة كورونا، ورغم عدد الضحايا المرتفع في إيطاليا، نجد مواطنيها يغنون الأوبرا بشكل جماعي في ساعة متأخرة من الليل

لا شك أن هذه التصريحات المبكرة مثيرة للدهشة والاستغراب، خاصة وأن مارتن ريس حدد بالدقة عام 2020 موعدا لكارثة انتشار الفيروس القاتل، التي أطلق عليها فيما بعد الاسم العلمي كوفيد-19. تمعنت في كلام الباحث البريطاني عدة مرات، ثم بحثت لأعرف المزيد عن خلفية الباحث. لو تمعنا في عبارة ريس ثانية، لوجدناها تقول: "لذلك، لاحظ الغرب، وفي طليعته الولايات المتحدة الأميركية، أن شخصا واحدا يمكن أن يسبب كارثة عالمية"، أي أنها لم تحمِّل العبارة الغرب ولا الولايات المتحدة مسؤولية تطوير ذلك الفيروس على الإطلاق، بل تبدأ بكلمة "لاحظ". 

ثانيا، لم يكن مارتن ريس ـ حسب سيرة حياته ـ عالما بيولوجيا على الإطلاق، وإنما هو تحديدا عالم في فيزياء الفلك، أي مختصا بحركة الكواكب في الكون وتأثيراتها على الأرض والبشر.

بالفعل، حمل مقال ديفيد رينولدز إغناتيوس (الذي عممته "الحرة" نقلا عن "واشنطن بوست") معلومات متسلسلة مهمة عن الشهور التي سبقت اكتشاف الفيروس، والتي تشير إلى أن الفيروس لم يخرج من سوق ووهان للمأكولات البحرية، وإنما من مركز أبحاث لا يبعد عنه سوى 100 متر ـ وهي نظرية سبق أن نوه إليها فريق بحث فرنسي رغم تزييفه لمعلومات مغلوطة عن وثيقة مبكرة التاريخ حول اكتشاف فيروس كوفيد-19. 

نبه عالم الأحياء الدقيقة وخبير السلامة البيولوجية ريتشارد إبرايت إلى أن انتقال الفيروس من الخفافيش إلى الإنسان وربما من خلال حيوان آخر أمر ممكن الحدوث، محذرا من أن هذا يمكن أن يحدث نتيجة حادث مختبري. 

أكد بحث صيني صدر عن جامعة جنوب الصين للتكنولوجيا أن مركز ووهان لمكافحة الفيروسات هو مصدر انتشار الوباء، لأنه أبقى الحيوانات الموبوءة بالأمراض فيه، بما ذلك 605 خفاشا. وأشار البحث إلى أن بعض الخفافيش المحملة بالمرض هاجمت أحد الباحثين، ومن الممكن أن تكون قد نقلت المرض إليه. 

الغريب، أن البحث سحب فجأة في فبراير الماضي! يبقى جهد العلماء مثيرا للاحترام والإعجاب بقدرة التنبؤ أن الفيروس سيستشري في العام 2020، علما أن الدراسات الأحدث تشير إلى كمون الفيروس في جسم الإنسان سنوات عديدة، طوَّر خلالها نفسه، رغم أن أصل نشوئه جاء من اختلاط الخفاش بالثعبان، وربما بآكل النمل الحرشفي. أما أحدث الاكتشافات، فهو أن الفيروس كان كامنا في البشر وتم تناقله بينهم عبر شهور أو سنوات ليطور نفسه ويصبح فتاكا، الأمر الذي يزيد صعوبة اكتشاف لقاح لهذا المرض.

نقل عن عالم ألماني يدعى هنريك ستريك، اختصاصي الفيروسات في جامعة بون، أن تجاربه مختبره أثبتت عدم انتقال فيروس كوفيد-19 عن طريق لمس الأسطح الملوثة ولا عن طريق فراء الحيوانات الأليفة، وإنما برذاذ العطاس والسعال حصرا.  قيل إن العالم توصل إلى هذه النتيجة بمسح كثير من مقابض الأبواب في هاينزبرغ، أكثر بلدات ألمانيا إصابة بالفيروس.

انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع من فيلم Contagion "الجائحة"  (2011)، واستخدمت مقاطع من الفيلم السينمائي للإيحاء بأنها تجري الآن بصورة حقيقية. كذلك، تم ترويج عدة مقاطع عن فوضى عنيفة في بعض المدن الأميركية والأوربية ونهب السوبرماركتات، ثم تبين أنها تعود إلى أحداث أخرى جرت في أزمنة سابقة. 

هل انتهى الفرح من العالم؟ لا أعتقد أنه سينتهي، فالحياة مستمرة لأن الإنسانية قادرة أن تنبعث من رمادها كطائر العنقاء

كما انتشرت مقاطع تدّعي بأنَّ مسلسل الكارتون الشهير "سيمبسون" تنبّأ بانتشار فيروس كورونا في إحدى حلقاته القديمة. لكن بعد تحقق "مؤشر مسبار"، تبيّن أن الحلقة تُشير إلى فيروس ينتقل عن طريق مصنع في اليابان يسمّى بإنفلوانزا "أوساكا"، وأنَّ الصورة المتداولة والتي تُظهر اسم فيروس كورونا في المقطع المصوّر مُفبركة.

هل انتهى الفرح من العالم؟ كل الأخبار المتداولة تجعل الفرح يتوارى عن الأنظار بوجنتين متضرجتين من الخجل. هل يمكن أن يعرب إنسان عن فرحه بشيء في خضم أمواج كورونا العاصفة؟ رغم فداحة آثار جائحة كورونا، ورغم عدد الضحايا المرتفع في إيطاليا، نجد مواطنيها يغنون الأوبرا بشكل جماعي في ساعة متأخرة من الليل. أما البريطانيون، فنجدهم يواجهون الحجر الصحي في منازلهم بالتصفيق من نوافذهم وشرفات منازلهم في ساعة معينة. 

شاهدت أيضا عزف فرقة موسيقية فرنسية اضطر عازفوها للتوزع في بيوتها عبر وسائل الاتصال الاجتماعي مقطوعة رافائيل "بوليرو" الشهيرة وبثوها عبر الإنترنت. وزع مؤخرا عبر وسائل الاتصال الاجتماعي فيديو يظهر الرئيس التونسي قيس السعيد يلقي كلمة أدبية بليغة ويساعد بنفسه، دون ارتدائه قناعا، في نقل صناديق المعونات لمواجهة جائحة كوفيد-19. 

في الكنيسة المقابلة لمنزلي في إيفنستون بولاية إلينوي، تقرع الأجراس خمس مرات في اليوم للتذكير بالضحايا، وربما للتحذير من مغبة الخروج من المنازل دون ضرورة. 

هل انتهى الفرح من العالم؟ لا أعتقد أنه سينتهي، فالحياة مستمرة لأن الإنسانية قادرة ـ مثلما قدرت مئات المرات من قبل ـ أن تنبعث من رمادها كطائر العنقاء.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.