بالنسبة للمعماري العراقي الراحل رفعة الجاردجي، الذي وافته المنية قبل أيام قليلة في العاصمة البريطانية لندن، كانت العمارة رؤية ووعيا فلسفيا، لنمط علاقة البشر ببعضهم وفهمهم لأحوالهم وقراءتهم لكامل الوجود، أكثر من كونها مهنة أو حرفة، أو حتى صنعة جمالية. فالعمارة حسبه هي جزء من العلوم الإنسانية الأكثر عمقا وتركيبا، وليست مجرد فن أو هندسة.
رؤية الجادرجي كانت تستند على قائمتين مركبتين: فالعمارة هي في المحصلة حوار مجتمعي، تنتجه البنى والطبقات والأمزجة الاجتماعية، تعبر فيها عن ذاتها وخياراتها ومخيلتها الروحية. وهي حينما تفعل ذلك إنما تدخل في حوار متبادل بين مختلف مستويات ونزعات هذا المجتمع.
العمارة إذ تفعل ذلك، فإنها بدورها تنتج المجتمع بشكل ما، أو تساهم في فعل ذلك. فمثلما تفرز المجتمعات "الكئيبة" أنماطا من العمران المحافظ والمعتم والعشوائي، فإن هذا العمران بدوره يعمل على إنتاج المجتمع، كمجتمع محافظ ومعتم وخال من الرؤية. فالعمارة حاضر وقيمة وذات دائمة في المجال العام، اليومي والمعاش، منظومة من القيم المكثفة ولغة وأداة للفعل الاجتماعي، وواحد من أهم الديناميكيات المؤثرة على الحياة العامة والمجتمعية.
كان العهد القومي المقدمة الموضوعية لانحلال الريف العراقي عبر إفراغه
الداعمة الأخرى كانت ترى أن العمارة جزء من حركة الحياة، يجب أن تستميت من سبيل وعي التحولات والتطورات التكنولوجية والاقتصادية والعلمية، لأنها في المحصلة استجابة لمطالب وتطلعات اجتماعية.
فالعمارة حسب الجادرجي كانت تصنع التطلع بالضبط مثلما تنسج الذاكرة بالتراكم. فالبشر يعيشون في ذلكم المستويين من العلاقة مع العمران، ما راكمته عبر تاريخها، وما توعد بأن تكون عليه، استجابة لأنماط الحياة التي كانت والتي تعد بأن تكون عليه.
♦♦♦
لأقدار مريعة، فإن كل تفصيل من عمران العراق الراهن، إن كانت تصح كلمة "عمران"، يكاد أن يكون على عكس ما كان يتطلع ويراهن عليه الجادرجي. سواء على مستوى المتن العام الكلي، أو في البيئات المنزلية الذاتية.
إذا تغرق مدن وبلدات هذه البلاد بمزيج رهيب من العشوائيات المعتمة، الخالية من أية قيمة جمالية أو رؤية ذات ذاكرة أو تطلع. يحدث ذلك بالرغم من كميات الأموال والموارد التي تنهمر على البلاد، مما يثبت أن المسألة المعمارية ليس لها من علاقة وطيدة مع القضية الاقتصادي/المالية، بقدر ما هي تعبير وانعكاس لأحوال المجتمع العراقي ومؤسسات دولته، وعلاقة هذين المستويين مع العلوم الإنسانية والأوضاع السياسية والخيارات النفسية والاجتماعية.
عمران العراق الحالي، نتج عن تراكم أنماط من الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي مرت على العراق خلال تاريخه الحديث، التي أفرزت وراكمت هذه الأشكال من العمران.
فمثل كل الدول والكيانات حديثة التشكيل في منطقتنا، فإن العراق كان فضاء ريفيا للغاية في سنوات تشكيله الأولى، ولم تكن تملك مدنه القليلة والصغيرة إلا شيئا قليلا من تراث العمران العثماني، بعض المرافق العمومية المشيدة على شكل دور للخدمة العامة، وبعض منازل كبار الموظفين العموميين.
صحيح أن العهد الملكي أضاف هوية عمرانية ما، فسيحة وملونة، على مراكز المدن ومؤسساته العامة، والقليل جدا من منازل أبناء الطبقة المستحكمة. إلا أن الملكية بقيت "بخيلة" في توزيع خيارها العمراني، ليكون طبقيا ومدينيا فحسب، حُرمت منه طبقات الضعف العراقية، الريفية الفلاحية، التي تراكم عوزها من مختلف الأشياء، ومنها العمران.
كان الملكيون العراقيون شكلا أقل حدة من العمران الاستعماري، الذي كان يحتكر البهاء العمراني مثلما كان يحتكر سطوة وأداة النفوذ إلى قلب الفعل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
البعثنة مثلما سعت لأن تقضي على كل ذاكرة وذات عراقية سابقة لها، وفي كافة القطاعات، وتعتبر نفسها مبتدأ التاريخ
عهد حكم القوميين الشعبويين، الذي شغل كامل عقد الستينيات، وليثبت مناقضته للعهد الملكي بكل تفاصيله، استقدم ملايين الريفيين إلى ضواحي المدن، ليحولهم إلى حطب في ديناميكيات سيطرته السياسية.
كان العهد القومي المقدمة الموضوعية لانحلال الريف العراقي عبر إفراغه المتقادم، وتشويه المدن عبر إغراقها بالعشوائيات والتشييد المستعجل للأحياء الجديدة، بأية شروط كانت.
كان ذلك العهد المقدمة الموضوعية التي أفرغت المجتمعات العراقية من شرطها المعماري، وبالتالي الجمالي والحقوقي، ولم يكن صدفة بأنه العهد الذي كرس من جديد نمط الرعايا، على حساب المواطنة.
♦♦♦
عهد البعث الطويل، الذي كان جمعا مريعا بين الاستبداد العسكري المصمم حول عبادة الفرد/القائد، التي أفرزت صدام حسين، بما كان يعنيه في الذات والمتن العراقي. جمع ذلك بالوفرة المالية التي تدفقت على البلاد منذ أوائل السبعينيات، بعد الارتفاع الاستثنائي لأسعار النفط، والذي أنتج "التنمية الانفجارية" طوال ذلك العقد.
كان المماثل العمراني للعهد البعثي الطويل يظهر في ثلاثة اتجاهات أو استعارات. فالبعثنة مثلما سعت لأن تقضي على كل ذاكرة وذات عراقية سابقة لها، وفي كافة القطاعات، وتعتبر نفسها مبتدأ التاريخ، فإنها قضت ومحقت كل منتج ومنجز عمراني سابق لها، بالذات منها تلك التي كانت في الفضاءات العامة.
كان توجه البعث لتهديم نُصب الجندي المجهول التقليدي، الذي كان في ساحة الفردوس وسط العاصمة بغداد، والذي كان من تصميم المعماري رفعة الجادرجي نفسه، أكبر مؤشر على ذلك. فذلك النُصب الذي كان تعبيرا متخما بالإنسانية وأثار الفِقد في الذاكرة، حيث كان تصميما يشبه جسد أم الشهيد، التي من شدة ألمها ونواحها على أبنها، إنما صارت أشبه بخيمة تظلل جسده هو، تحرس روحه المفقودة.
حُطم ذلك التعبير العمراني واستبدل بكتلة خرسانية بكماء وقاسية، كانت تمثالا للرئيس العراقي الأسبق صدام حسين. ذلك التمثال الذي كان إسقاطه عام 2003 لحظة تعبيرية عن نهاية الحقبة الصدامية.
استعارة البعث الثانية كانت في تشييد الصروح، الساحات والنُصب والمساحات شديدة الضخامة وقاسية التعبير، شيء بصري مناظر لما كانت تفعله الإمبراطوريات العسكرية التقليدية. إذ ثمة على الدوام سيوف وخوذ عسكرية وخيول وأعلام وعبارات مطلقة ومغلقة، تستميت في سبيل تكريس سطوة الحكم العسكري في المجال العام.
كان نُصب "قوس النصر"، الذي كان على شكل سيفين ضخمين جدا، وقيل إنهما صُنعا من صهر خوذ الجنود الإيرانيين خلال سنوات الحرب الطويلة بين البلدين، كان تعبيرا عن ذلك الاستبداد والقسوة الرمزية العمرانية، التي كانت انعكاسا لما يماثلها في عالم الاجتماع السياسي الذي كان في البلاد.
في كل تفصيل من العمارة العراقية المنتجة في السنوات الأخيرة يمكن ملاحظة كمية البؤس وفقر المخيلة
كان تشييد نصب "قوس النصر"، المؤلف من السيف ومشهد صدام حسين وهو يعبره بخيله، إيذانا بنكوص العراق إلى ماضيه ما قبل المديني، فتلك العمارة أنتج العودة إلى القوانين والقضاء العشائري والحملة الإيمانية، التي غطت كامل عقد التسعينيات.
أخيرا، فإن العمران البعثي كان أسيرا لصندوق الثكنة، ما كان قادرا على مغادرتها في كل تفصيل. فمن قصور صدام التي كانت بالعشرات، مرورا بأبنية المؤسسات العامة والرسمية، وصولا لآلاف المجمعات السكنية المتناثرة، كان قانون الثكنة هو المسيطر على الذهن العمراني. فهي مجرد مربعات إسمنتية مغلقة، دون شرفات وتنويع وتفاوت في التشكيل، غارقة من مزيج من الألوان البنية والزيتية العسكرية. كانت الثكنة، كشكل مغلق ومكتمل، هي الحكم النهائي على فناء الحوار والمخيلة، وبالتالي التخلي عن مطلب ودعوة.
♦♦♦
عراق السنوات الأخيرة، الذي انهمرت عليه الأموال والصراعات الطائفية والتدخلات الإقليمية والحروب الأهلية، أفرز خرابا عموميا. يكاد معه التمييز صعبا، بين تلك المدن التي دمرتها حروب السنوات الأخيرة، وتلك التي لم يمسها الحرب.
في كل تفصيل من العمارة العراقية المنتجة في السنوات الأخيرة يمكن ملاحظة كمية البؤس وفقر المخيلة. من واجهات المباني إلى المباني قليلة الشمس، من الشرفات المصممة وكأنها أسطح، إلى الشوارع المستقيمة والخلاء، وكأنها ميادين للمسابقات الأولمبية، مرورا بالفروق الهائلة بين أحياء المنعمين الجدد المغلقة وما يناظرها من عشوائيات الفقراء، ولوحات صور القادة الملهمين في الساحات العامة.
الأرصفة هي التعبير الأبرز عن أحوال العمارة العراقية الراهنة. ففي كل مدن وبلدات العراق، ثمة اعتقاد مطلق بأن الأرصفة إنما هي أملاك خاصة وليست فضاء عموميا. فأرصفة العراق كلها مشغولة من قبل مالكي الدور والمنازل، هي أماكن لمواقف سياراتهم ومستودعات لحاجاتهم الزائدة ومحولاتهم الكهربائية التي تعمل على الديزل، بالضبط كما صارت أرصفة الفضاء العام ملكا لقادة الدوريات الشرطية والبلدية، تبعها وتؤجرها للباعة المتجولين. خصخصة الأرصفة التي هي ملك وحق عام، هي استعارة تحول العراق ككيان وفضاء ومجتمع عمومي إلى ملكية خاصة للمتمكنين من أبنائه، أو حتى من غيرهم.